من نحبهم لا نعرفهم أبدًا: خداع المشاعر أمام عمق الآخر

نقول إننا نعرف من نحب. نلمس وجوههم، نحفظ أصواتهم، نتنبأ بردودهم، نطمئن لوجودهم. لكن الحقيقة المؤلمة التي تتكشّف مع الزمن هي أننا لا نعرفهم بقدر ما نظن، وربما لا نعرفهم إطلاقًا. 

لأننا في الحب لا نرى الآخر كما هو، بل كما نحتاجه أن يكون. نبني صورًا، ونُسقط أمنيات، ونلبسهم ثيابًا خاطئة بحجّة أنهم الأقرب. وهكذا، نحب انعكاس أنفسنا فيهم… لا حقيقتهم هم.

عندما يتحوّل الحب إلى إسقاط

في العلاقة العاطفية، نكون في حالة إسقاط دائم.

  • نُسقِط خوفنا من الهجر على أبسط غياب
  • نُسقِط صورتنا عن الأب المثالي أو الأم على الحبيب
  • نُسقِط احتياج الطمأنينة على كلماتٍ غير كافية

فنطلب من الآخر أن "يكون لنا" أكثر مما يكون لنفسه. نخلط بين الحب وامتلاك الصورة، بين العلاقة والانعكاس.

وفي خضمّ هذا الإسقاط، يُفقد الآخر ملامحه الأصلية… ونكتشف متأخرين أننا لم نكن نحبّه، بل نحب ما يمثل لنا.

حاجز الإدراك: من أنت خلف ابتسامتك؟

لا أحد يمكنه أن يفتح قلبه بالكامل للآخر، حتى ولو أراد.
فالآخر، مهما اقترب، يظل يملك قاعًا لا يمكن الوصول إليه.

  • ماضيه
  • جروحه التي لم يخبرك عنها
  • أفكاره التي خاف أن يقولها
  • أسراره الصغيرة التي يبتلعها صمتًا

نحن لا نحب كل ذلك.
نحب الوجه الذي يُعرض لنا. نحب الطريقة التي "نشعر بها معهم"، لا هم أنفسهم.
وهذا ليس خطأً دائمًا… لكنه خداع عاطفي لا ننتبه إليه.

الفجوة العاطفية: حين لا نفهم ردة فعل من نحب

يحدث أن يخذلنا من نحب. لا لأنهم تغيّروا، بل لأنهم لم يكونوا أصلًا كما تخيّلناهم.

  • لماذا صمت عند لحظة كنتَ تنتظر منه الكلام؟
  • لماذا لم يفهم ألمك كما يفهمه الغريب؟
  • لماذا قال ما قاله وأنت كنت تظنه الألطف؟

الخذلان لا يأتي من الآخر، بل من صورة الآخر التي صنعناها داخلنا.
وهنا تكمن أعمق فجوة في الحب: أن نواجه حقيقة أن من نحبّه يملك عالمًا داخليًا لم ندخله أبدًا… فقط وقفنا على بابه، نقرأ اللافتة.

الحب كمعرفة: هل نحب أقلّ إذا عرفنا أكثر؟

في بعض الأحيان، تكون المسافة بيننا وبين الآخر هي ما يحفظ الحب حيًّا.
لأن القرب الزائد يكشف هشاشتنا.
والمعرفة الكاملة تُظهر التناقض، والأنانية، والملامح التي لا تليق بصورة "من نحبّه".

فهل نحبهم أقلّ إن عرفناهم أكثر؟
ربما نعم.
وربما لهذا السبب تبقى كثير من العلاقات على قيد الحياة لأننا لم نصل إلى العمق الذي يُفقد الحب وهجه.

الإنسان كقارة مجهولة

كل إنسان هو قارة. لا تُرى من نافذة واحدة. ولا تُفهم في رحلة قصيرة.
أن تحب إنسانًا، لا يعني أنك خريطة له.
أقصى ما يمكن أن تفعله هو أن تكون رفيقًا صادقًا في رحلة الاكتشاف، لا مالكًا لوصفه.

وأن تعترف:
"أحبك، رغم أني لا أعرفك تمامًا. وأتقبّلك، حتى فيما لا أراه فيك."

خاتمة:

من نحبّهم، لا نعرفهم أبدًا.
لأننا نحبهم بأعيننا، لا بعيونهم. نحبهم كما أردناهم أن يكونوا، لا كما هم.
لكن في لحظة نادرة من الصدق، يمكن للحب أن يرتقي:
أن نحب الآخر رغم اختلافه، رغم غموضه، رغم كل ما لا نفهمه فيه.
وحينها فقط… نقترب خطوة صغيرة من الحب الحقيقي.
لا حب الصورة، بل حب الكائن الحي خلفها.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.