
لكن خلف هذا المشهد "السلمي" تظهر معادلات أكثر تعقيدًا: من الذي قرر أن هذه هي اللحظة المناسبة للحل؟ ولماذا الآن؟ ومن يربح من تفكيك الحزب بعد عقود من استخدامه كأداة ضغط إقليمي؟ وما الفرق بين "سلام من أجل الحقوق" و"سلام بعد انتهاء الدور"؟
الحقيقة التي لا تُقال: حزب العمال أداة أكثر منه كفاحًا
منذ ثمانينات القرن الماضي، وُظّف حزب العمال الكردستاني كأداة لتأجيج الداخل التركي عند الحاجة، وللضغط على أنقرة في ملفات خارجية، خصوصًا حين تقترب من هوامش الاستقلال الجيوسياسي عن الغرب. الدعم الذي تلقّاه الحزب، سواء عبر التسليح، أو التسامح الأوروبي مع نشاطه السياسي والدعائي، لم يكن بريئًا ولا إنسانيًا، بل مُنظمًا وهادفًا لإبقاء خاصرة تركيا رخوة.
الغرب لم يدعم حق الأكراد كمواطنين أحرار، بل دعم فصيلًا كرديًا محددًا يخدم وظيفته السياسية في تلك اللحظة.
الدور الوظيفي: من الفوضى البنّاءة إلى الفوضى الصامتة
لعبت التنظيمات المسلحة غير الدولانية، كـ PKK وYPG، دورًا رئيسيًا في استراتيجية "الفوضى البنّاءة" التي استخدمها الغرب لضرب استقرار الدول القومية في المنطقة.
لكن مع تغيّر أولويات واشنطن، وتحوّل المسرح السوري إلى ساحة موازين دقيقة، باتت الحاجة لتفكيك هذه التنظيمات أكبر من الحاجة لاستخدامها. فحزب تمّ استنزافه داخليًا، وتجفيف دعمه خارجيًا، لا يملك أن يرفض حين يُؤمر بأن يُحلّ.
لماذا الآن؟ نهاية الدور أم بداية التسوية؟
تفكيك حزب العمال الكردستاني لا يعكس تحوّلًا أخلاقيًا في فلسفة الحزب أو "نضجًا سياسيًا"، بل يعكس انتهاء مرحلته الوظيفية كأداة ضغط على تركيا.
تركيا اليوم، برئاسة أردوغان، عادت إلى سياسة أكثر براغماتية مع الغرب بعد سنوات من التوتر، وأصبح من الممكن — بل من المطلوب — تهدئة الجبهة الكردية لتأمين الحدود الجنوبية في ظل تصاعد التوتر في شرق المتوسط والحدود مع سوريا.
ومن جهة أخرى، باتت واشنطن ترى أن وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا (YPG) كافية للضغط في الشمال السوري، ولم تعد بحاجة لحزب "محروق" في الداخل التركي مصنّف كمنظمة إرهابية في سجلات الناتو.
أوجلان الرمز: حين يتحول القائد إلى أداة مشروعية
بقي عبد الله أوجلان في عزلة قسرية منذ سنوات، ثم فُتحت له فجأة نافذة الرسائل. ليس لقيادة مفاوضات، بل لإضفاء الشرعية الرمزية على قرار لم يُستشار فيه.
إن استخدام صورة أوجلان — لا شخصه الحقيقي — جزء من صناعة مشروعية شكلية، لا مصالحة حقيقية، وتهدف فقط إلى تسويق الخطوة داخليًا لدى الشارع الكردي.
هل هو سلام؟ أم انكفاء تكتيكي بإملاء دولي؟
ما يُوصف بأنه "سلام" ليس سوى لحظة انكفاء مدفوع بواقع سياسي معقّد، ضُيّق فيه على الحزب داخليًا، وجفّف دعمه خارجيًا.
حلّ الحزب يُنقذ تركيا من التورط في جبهات جديدة، ويُرضي الغرب الذي لم يَعُد يرى في الحزب وسيلة فعالة، ويُستخدم داخليًا كورقة انتخابية لصناعة وهم "تركيا الموحدة".
إنه ليس سلامًا متفاوضًا عليه من منطلق تكافؤ، بل تفكيك طرف تحت ضغط الجغرافيا وتغيّر المزاج الدولي، مع احتفاظ الطرف الأقوى بكل أدوات الدولة والتأثير.
خطاب الدولة: انتصارٌ لا يحتمل السؤال
تُروّج الدولة التركية أن الصراع انتهى، وأن السلام تحقق. لكن لا يُطرح السؤال الأساسي:
هل اعتُرف أصلًا بوجود قضية كردية؟
هل تغيّر الدستور؟
هل رُفعت المركزية القومية؟
هل أُعيد الاعتبار للغة والثقافة الكردية؟
هل ضُمن التمثيل السياسي العادل؟
لا شيء من ذلك حدث. ما حدث هو أن الدولة ربحت جولة استراتيجية دون أن تُغيّر فلسفتها تجاه الأكراد.
فالسلام الذي لا يُغير بنية التمييز هو سلام زائف، بل هو إعادة إنتاج للقهر في ثوب قانوني وأمني.
عنف ناعم: من الرصاص إلى الإقصاء الصامت
سابقًا، كان يُقصف الكردي إذا رفع سلاحًا.
اليوم، يُقصى إذا رفع صوته.
تحوّل القمع من عنف عسكري إلى عنف قانوني ناعم، يستخدم أدوات الدولة نفسها:
الإعلام، المحاكم، قوانين الإرهاب، البلديات المُعيّنة، وإغلاق الأحزاب المعارضة.
العنف لم يختفِ، بل أصبح "مُشرعنًا" ومُدارًا بهدوء.
الغرب الراضي: سلام بلا عدالة
التهليل الغربي لحلّ PKK يكشف أن ما سُمّي "دعم القضية الكردية" لم يكن إلا ورقة ضغط في اللحظة السياسية المناسبة.
الآن وقد تغيرت الحسابات، باتت نفس الدول تشيد بـ"وحدة تركيا" و"انتصارها على الإرهاب"، دون مساءلة، دون عدالة، دون اعتراف.
إنه نفاق جيوسياسي:
الديمقراطية تُستخدم كذريعة، وتُنسى عندما لا تتماشى مع المصالح.
من خُدع مرتين لا يُلام إلا على ثقته
من العراق إلى سوريا إلى تركيا، يتكرر المشهد:
تنظيمات قومية تُستخدم، ثم تُستنزف، ثم تُحرَق، وتُقدَّم نهايتها على أنها "نضج سياسي".
لكن الحقيقة أنها مجرد نهاية مرحلة من التوظيف.
هذا ليس سلامًا، بل إغلاق ملف بقرار دولي.
أما الحقوق؟ فتبقى مؤجلة حتى إشعار آخر.
الخاتمة
ما حدث لحزب العمال الكردستاني لا يُمثل نهاية قضية، بل نهاية مرحلة في توظيفها. أما جذور المشكلة، من التمييز، والتهميش، وإنكار الهوية، فلا تزال قائمة.
وإذا استمر الإعلام في تسويق "الهدوء" كسلام، و"الصمت" كمصالحة، فإننا نُكرّس من جديد خرافة أن الحقوق تُمنح بالمساومة، لا تُنتزع بالاعتراف.
أما تركيا، فستكتشف عاجلًا أن تصفية المظاهر لا تعني تصفية الأسباب، وأن من لا يُنصف الهامش، يُعيد إنتاج التمرد بأشكال أخرى.