حين تصبح السيادة جريمة: تفكيك خطاب العقوبات الغربية

لم تعد الحروب تُشنّ دائمًا بالصواريخ، بل تُفرض أحيانًا بالأرقام والبنود المصرفية. وفي عالم تُهيمن عليه المؤسسات المالية الغربية، تحوّلت العقوبات الاقتصادية إلى السلاح الأكثر فتكًا ضد الدول التي تجرؤ على امتلاك قرارها. فإيران تُعاقَب لأنها لا تتخلى عن برنامجها النووي، وفنزويلا لأنها لم تخضع لخطط الخصخصة، وسوريا لأنها لم تنهَر كما خُطِّط لها، وروسيا لأنها خرجت عن الدور المرسوم.

لكن السؤال الأخطر: هل أصبحت السيادة الوطنية نفسها تُعَد جريمة في نظر "النظام الدولي"؟ وهل يُعاقَب اليوم من لا ينتمي، لا لأنه ظالم، بل لأنه حرّ؟

العقوبات ليست "رد فعل".. بل سلاح استباقي

يروج الخطاب الغربي أن العقوبات تُفرض لحماية حقوق الإنسان، أو لمعاقبة الأنظمة الاستبدادية. لكن نظرة بسيطة على خارطة العقوبات تكشف غير ذلك:

  • لا تُعاقب السعودية رغم سجلها الحقوقي،
  • ولا تُعاقب إسرائيل رغم الاحتلال،
  • ولا تُعاقب الأنظمة العسكرية المطيعة.

بينما تُعاقَب دول فقط لأنها اختارت نمطًا اقتصاديًا أو تحالفًا لا يتوافق مع "مركز القرار العالمي".

العقوبات ليست إجراءً قانونيًا، بل عقاب سياسي على التمرّد الجيوسياسي.

من "العصا الاستعمارية" إلى "المصرف الدولي"

في الماضي، كانت الإمبراطوريات ترسل جيوشها لتأديب الشعوب. اليوم، يُدار العالم من مراكز التحكّم المالية:

  • تجميد الأصول،
  • حظر التحويلات،
  • منع الوصول للتكنولوجيا،
  • إغلاق المنافذ البنكية.

والأدوات واحدة: الدولار، سويفت، البنك الدولي، ومجلس الأمن حين يلزم التجميل.

إنها هندسة استعباد ناعمة، لا تُسال فيها الدماء في الشوارع، بل تنزف من المشافي، ومن خزائن الغذاء، ومن أرواح الفقراء.

الخطاب الأخلاقي: تغليف القسوة بالمبادئ

يرتدي هذا النظام خطابًا ناعمًا: الحرية، الديموقراطية، حقوق الإنسان. لكنه لا يُدين قصف اليمن، ولا يدافع عن غزة، ولا يحتجّ على الانقلابات الصديقة.
فالعقوبات ليست مرتبطة بالقيم، بل بالولاء.
الدول التي تشتري سلاحًا أمريكيًا ولو قتلت شعبها، تُحمى.
والدول التي ترفض التبعية، حتى وإن أجرت انتخابات، تُعاقَب.

هكذا، تُختزل الأخلاق في دفتر المصالح.

عقوبات ضد الشعوب.. باسم معاقبة الأنظمة

يُقال إن العقوبات تستهدف "النظام". لكن الواقع أن الوقود، والدواء، والغذاء، والتعليم، وكل متطلبات الحياة، تصبح ضحية.

  • في سوريا: مرضى السرطان يموتون بسبب العقوبات.
  • في إيران: الأطفال يُحرمون من بعض الأدوية الأساسية.
  • في فنزويلا: التضخم يجتاح الحياة اليومية.

ثم يخرج الإعلام الغربي ليقول: "انظروا إلى فشل هذه الأنظمة!"

وكأنهم يُشعلون النار ثم يلومون الضحية على الاحتراق.

العقوبات بوصفها تطويعًا سياسيًا

ليست العقوبات سوى وسيلة تطويع سياسي، ترغم الدولة على تعديل بوصلتها الاقتصادية، أو تغيير تحالفاتها، أو قبول شروط المؤسسات الدولية، أو حتى التخلي عن ثرواتها مقابل "الإنقاذ".
هي آلية لإعادة دمج الخارجين عن الطاعة ضمن منظومة السوق العالمية، تحت شعار "الإصلاح"، والحقيقة أنها شكل من الإخضاع المعولم.

المؤسسات الدولية: صمت انتقائي

أين الأمم المتحدة؟ أين محكمة العدل الدولية؟ أين مجلس حقوق الإنسان؟
حين تتعرض دولة لعقوبات ظالمة، تختفي كل هذه الكيانات، أو تتذرّع بـ"قواعد العمل".
والسبب بسيط: لأن النظام الدولي ليس محايدًا، بل خاضع تمامًا لمعادلة القطب الواحد أو من يدير أدوات الضغط فيه.

النتيجة: تجويع الشعوب.. وإعادة شيطنة الدولة

تُجَوّع الشعوب حتى تنقلب على حكوماتها.
ثم تُصوّر الدولة على أنها سبب الأزمة.
ثم يُطلب منها التنازل لتُرفع العقوبات.
وحين تتنازل، تُعاد هندستها وفق مقاسات الليبرالية الجديدة.

إنها وصفة مكتملة: خلق الفوضى، ثم بيع الحلول المشروطة.

الخاتمة

لم تعد العقوبات وسيلة ضغط، بل باتت أداة هندسة سياسية كاملة، يُعاد عبرها تشكيل العالم، وخنق أي مشروع استقلالي باسم "الشرعية الدولية".
وحين تُصبح السيادة جريمة، ويُعدّ الاعتماد على الذات تمردًا، فاعلم أن النظام العالمي لم يعد محايدًا، بل مشروع إخضاع متكامل لا يتسامح مع المختلف، ولا يُسامح من يخرج عن الطاعة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.