
الخبر ليس ما حدث... بل ما تقرّر أن يُروى
القاعدة الأولى في التضليل الإعلامي ليست الكذب، بل الانتقاء. أن تُغفل قصة قصف مخيم مكتظ بالمدنيين، وتغرق الجمهور في أخبار الطقس أو أسعار العملات، فذلك لا يقل تأثيرًا عن الكذب المباشر. بل إن الإخفاء المدروس – أو التقديم الموجّه – يصنع وعيًا زائفًا لكنه مستقر، لأن الجمهور لا يشكك في ما لم يسمعه.
التغطية: نقل الحدث
التوجيه: تشكيل التأويل
التغطية الحقيقية تُفترض فيها المهنية: ذكر للحدث، لأطرافه، لخلفياته، دون استبعاد ممنهج أو تضخيم دعائي. أما التوجيه، فيُمارَس حين تُختَزل معاناة أمة في مشهد عابر، ويُمنَح الطفل الغربي المختبئ في قبو أكثر من ضحايا المجازر الجماعية في الجنوب العالمي. في التوجيه، لا يُكتفى بعرض الحدث، بل يُحمَّل برسائل ضمنية، وتراتبية وجدانية، تخدم سردية القوى المهيمنة.
ما يُعرض وما يُخفى: هندسة التلقي
في حالات كثيرة، لا يتعلّق الأمر فقط بما يُعرض، بل بما لا يُعرض أبدًا. حين يُمنع بث صور الضحايا في غزة بحجة "الصدمة"، ويُسمَح بعرض كل مشاهد الدمار في أوكرانيا تحت عنوان "التوثيق"، فإننا أمام سياسة كيل بمكيالين إعلاميين، تهدف إلى تحييد المشاعر في بعض القضايا، وتعبئتها في أخرى.
التكرار... حتى تُصدّق الكذبة
يعتمد التوجيه الإعلامي أيضًا على التكرار المكثف لمعلومة واحدة، وإقصاء أي طرح بديل، حتى تصبح الرواية الرسمية هي الواقع الوحيد المتاح. تتكرر المفردات نفسها: "الدفاع عن النفس"، "الإرهاب"، "التحريض"... فتتحوّل إلى حقائق فوق المساءلة، ويُجبر المتلقي – دون وعي – على إعادة إنتاجها حين يتحدث أو يعلّق.
صناعة التعاطف وتجميد الضمير
لا يُكتفى في التوجيه بصناعة المعلومة، بل أيضًا بالمشاعر. حين تركز التغطية على طفل غربي بعيون زرقاء، وتبني حوله قصة إنسانية مفصّلة، ثم تُختصر معاناة آلاف الأطفال من دول الجنوب في رقم إحصائي بارد، فإن الإعلام لا ينقل الحدث، بل يقرّر من يستحق الحزن، ومن لا صوت له ولا صورة.
الخاتمة:
لم تعد الحرب فقط بالرصاص، بل بالكلمات والصور. وأخطر أنواع التضليل ليست تلك التي تكذب، بل التي تختار الحقيقة التي تُعرض، والزمن الذي تُبث فيه، والسياق الذي تُفسَّر فيه. الخبر سلاح، ومن لا يملك منصته، سيُعرَّى من إنسانيته.