الخبر المُنتقى: كيف يصنع الإعلام الغربي أولويات العالم؟

في زمن فائض الأحداث وسرعة تدفق المعلومات، لم يعد السؤال: "ماذا حدث؟" بل أصبح: "لماذا اختير هذا الحدث دون سواه ليملأ الشاشات والعناوين؟". فالإعلام لم يعد مجرّد مرآة تعكس العالم، بل أصبح أداة لصياغة صورة معينة له، باختيار ما يُعرض وتجاهل ما يُغفل، بما يخدم سرديات القوى المسيطرة لا أولويات الضمير الإنساني.

الإعلام لا ينقل العالم... بل يعيد ترتيبه

حين يُفجَّر مبنى في عاصمة أوروبية، يُستنفَر الإعلام الغربي بكل أدواته، تُجرى مقابلات، تُخصص التغطيات العاجلة، تُستدعى العبارات الثقيلة: "هجوم إرهابي"، "تهديد للأمن العالمي"، "لحظة مفصلية".
لكن حين يُباد حيٌّ بأكمله في غزة أو السودان أو اليمن، لا نرى سوى خبرًا عابرًا، مختبئًا في الزاوية السفلية من نشرة لا تستمر أكثر من 20 ثانية، يُتلى بلغة باردة، بلا سياق، ولا سردية.

من يحدد ما يستحق التغطية؟

المحررون الكبار، والشبكات العابرة للقارات، ومراكز القرار الإعلامي التي ترتبط – مباشرة أو ضمنيًا – بمصالح الجيوسياسة الغربية، هم من يقرر ما إذا كان الضحايا "جديرين بالتغطية" أو مجرد أرقام لا تُؤرّق الجمهور.
ليست المأساة هي ما يصنع الخبر، بل علاقة الضحية والجلاد بمنظومة النفوذ. فإن كانت الضحية تنتمي إلى "العالم الحر"، فكل دمعة تُوثّق. وإن كانت من العالم الثالث، فالصورة إمّا ممنوعة، أو مشروطة، أو تُدرج تحت بند "صراعات معقدة".

حين يُغيب الضحايا وتُبنى السردية

الإعلام الغربي لا يكتفي بتجاهل بعض الضحايا، بل يعيد ترتيب القيم وفق خارطة مصالحه. يُبرز قصف محطة قطار في أوكرانيا باعتباره جريمة ضد الإنسانية، لكنه يُشرعن تدمير أبراج سكنية في غزة تحت عنوان "عمليات أمنية دقيقة". يُعطي صورة كاملة لجندي أوكراني يبكي فوق جثة طفل، لكنه لا يعرض صورة الجندي الإسرائيلي وهو يلتقط "سيلفي" أمام الأنقاض.

الأولويات المُصنَّعة: من يهم، ومن لا يُهم

عبر التكرار، والتضخيم، والإلحاح، يُصنع وهم الأولويات. يصبح حدثٌ ما هو "الأزمة العالمية"، بينما تُدفن أزمات مزمنة ومجازر متواصلة في الظلال. وحين يسأل الناس: "لماذا لا يتكلم العالم؟"، تكون الإجابة: لأن من يملك المايكروفون قد قرر أن هذه الأرواح لا تستحق الضجيج.

التضامن الانتقائي والضمير المُهيكل

هنا تظهر خطورة الإعلام المنتقى: ليس فقط في التغطية، بل في تشكيل ما يمكن تسميته بـ"الضمير المُهيكل" — ضمير لا يتحرك إلا إذا أمرته الشاشات. فيتضامن الناس مع قضية لأنه رأى وجه طفل باكٍ، ويتجاهل أخرى لأنه لم يرَ منها سوى عدد في تقرير اقتصادي جاف.

الخاتمة:

في النهاية، لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لإيصال الحدث، بل أصبح هو من يُقرّر من هو الإنسان، ومن هو الخبر، وما هو "الحق". وبينما يظن الناس أنهم مطّلعون على كل شيء، فإنهم – في الواقع – لا يرون إلا ما أراد الإعلام أن يُروه.
وهكذا تُصنع أولويات العالم... لا بالحقيقة، بل بالانتقاء.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.