
لم تعد العبودية تُمارَس بالسياط، بل بالعقود، ولم يعد العبد يُباع ويُشترى، بل يوقّع بنفسه على التزامه بالولاء للنظام... مقابل راتب آخر الشهر.
لقد نجحت الحضارة الحديثة في إعادة إنتاج العبودية، لكن تحت مسمّى آخر: الوظيفة.
أُعيدت صياغة المعاني، فصار العمل هو القيمة، والوظيفة هي الهوية، والإنتاجية هي المعيار الوحيد للإنسان. ولم يعد يُسأل: من أنت؟ بل: ماذا تعمل؟ وما دخلك الشهري؟ وما مدى انشغالك؟
من العمل إلى الإله
العمل، في صورته النقية، حاجة إنسانية نبيلة. لكنه في النسخة المعاصرة تحوّل إلى وثن مقدّس.
تم رفع العمل إلى مقام الإله الذي يجب طاعته، حتى لو سحق صحتك النفسية، ودمّر علاقاتك، وأفرغ حياتك من المعنى.
صارت المكاتب الحديثة بمثابة معابد يومية، يُقدّم فيها الإنسان وقته وطاقته على مذبح الأداء، بينما يراقبه نظام رقمي لا يرحم، يقيّم سلوكه ويحاسبه على كل تأخر أو فتور.
العمل ليس حرية
يروَّج أن الوظيفة تحرر الإنسان من الفقر، لكنها في الحقيقة تقيده بسلاسل من نوع آخر:
الاعتماد الكامل على الدخل، والخوف المزمن من الفصل، والقلق الدائم من عدم الكفاءة.
إنها منظومة تُبقي الإنسان منشغلاً ليلاً ونهارًا، حتى لا يتفرّغ للسؤال: لماذا أعيش؟
فالانشغال المستمر أحد أدوات السيطرة الحديثة، يسرق منك وقت التأمل، وحق التأخّر، وفخامة الملل.
"أنت ما تنتج"
هذا هو الشعار غير المكتوب للحضارة الاستهلاكية.
كل ما لا يُنتج مالًا لا قيمة له:
القراءة ترف، التأمل كسل، الراحة ذنب، الجلوس مع الأسرة ضعف.
أما أن تكون "مشغولًا طوال الوقت" فهذا ما يُكسبك الاحترام، حتى لو كنت تجهل من أنت ولماذا تحيا.
العبودية الاختيارية
إن أخطر أنواع العبودية هي تلك التي يرتدي صاحبها ربطة عنق، ويذهب إليها كل صباح بكامل إرادته، معتقدًا أنه يملك قراره، بينما هو يبيع أيامه في سوق الزمن.
الوظيفة ليست عبودية دائمًا، لكنها قد تتحوّل إلى ذلك حين تفقد روحك، وتذوب فرديتك، ويُختزل وجودك في جداول Excel ومؤشرات الأداء.
خاتمة
في عالمٍ يقدّس العمل على حساب الإنسان، يصبح التحرّر الحقيقي هو استعادة الذات من نظام لا يعرف إلا الإنتاج والاستهلاك.
ليست القضية أن تعمل أو لا تعمل، بل أن تعرف لماذا تعمل، ولأجل من، وعلى حساب ماذا.
الكلمات المفتاحية: فلسفة العمل، عبودية الوظيفة، الإنتاجية، نقد الحداثة، الاغتراب الوظيفي، الإنسان المعاصر، نقد الرأسمالية، الحضارة الحديثة، معنى الحياة، التمرد الوجودي