
لم تعد سلوكًا فرديًّا أو صدفة عابرة، بل تحوّلت إلى بنية تُنتج وتُكرّر وتُكافَأ.
إننا لا نعيش فقط في زمن التفاهة، بل في منظومة تُدار بها الحياة العامة على كل المستويات: الإعلام، السياسة، التعليم، والثقافة.
في الماضي، كانت التفاهة تُحتَقر.
اليوم، يتم تلميعها، وتعليبها، وتقديمها كأمر طبيعي، بل مرغوب.
صعود الرداءة: كيف بدأت المنظومة؟
يصف الكاتب الكندي "آلان دونو" في كتابه الشهير "نظام التفاهة" كيف أصبحت الرداءة مهيمنة حين بدأ يُختار الناس في المواقع لا على أساس الكفاءة، بل على أساس الخضوع.
لا تُكافَأ في هذا النظام على تفوّقك، بل على قدرتك على عدم إزعاج النظام.
الذكي الذي لا يساير يُستبعد، أما العادي القابل للتشكيل، فيُرقّى.
وهكذا تسللت التفاهة إلى المراكز:
في الإعلام، اختفت الأسئلة الجادة لصالح النكات التافهة.
في السياسة، غاب المشروع لصالح الخطاب السطحي المكرر.
في التعليم، صار التقييم كمّيًا لا نوعيًا، والمعرفة منتجًا لا تجربة.
الحياد كقيمة عليا
في هذا النظام، لا يُطلب منك أن تكون عميقًا، أو صادقًا، أو حقيقيًّا.
بل أن تكون "محايدًا"، أي بلا موقف.
أن لا تُحرج أحدًا، ولا تطرح أسئلة مؤرقة، ولا تكشف زيفًا.
الحياد هنا ليس نُبلًا، بل وسيلة لتكريس الوضع القائم، وضمان بقاء الرداءة.
التافهون لا يخافون
الأخطر أن التافه لا يخجل من تفاهته.
بل يتباهى بها، ويصنع منها هوية، ويجمع حوله جمهورًا، ثم يتحوّل إلى قدوة.
وتصبح الرداءة معيارًا، فيخجل العاقل من عمقه، ويشعر المثقف أنه يعيش في زمن لا يفهمه أحد.
من المعلومة إلى "الترند"
في فضاء يُديره منطق التفاهة، تُستبدَل الفكرة بالمقطع، والقراءة بالرد الساخر، والتحليل بالانفعال.
كل شيء يُختصر، يُسطّح، يُشوَّه ليُناسب الزمن السريع.
وحين تُختزل المعلومة في عنوان صادم، يُصبح العالم مجرّد شاشة... لا عقل.
هل من مقاومة ممكنة؟
نعم، لكنّها مقاومة بطيئة، صامتة، وصعبة.
أن تختار ألا تستهلك التفاهة، ألا تعيد نشرها، ألا تُكافئ من يروّجها،
أن تُعيد للغة عمقها، وللفكر مقامه، وللحياة احترامها.
أن تؤمن أن المعنى لا يصرخ، بل يُهمَس.
خاتمة
حين تتربّع التفاهة على العرش، لا يكون الانحدار مجرّد خطر، بل واقع.
والأمل الوحيد أن يبقى هناك من يرفض هذا النظام، لا بالصراخ، بل بالتماسك.
أن يبقى هناك من يختار المعنى، ولو وسط ضجيج الرداءة.