العبث المنظم: السعادة المستحيلة: كيف صارت حياتنا مشروعًا لا ينتهي؟

في زمنٍ غابت فيه البساطة، لم تعد السعادة شعورًا، بل خطة.

ولم تعد راحةً مؤقتة، بل هدفًا بعيدًا يوجَّه إليه الإنسان كما يُوجَّه السهم نحو اللاشيء.

السعادة في الحضارة الحديثة لم تعد حالة تُعاش، بل مشروعًا طويل الأمد، محكومًا بالإعداد والتخطيط والتحديث والتقييم.
وما لم تكن في طور "تحقيق السعادة"، فأنت متخاذل، أو فاشل، أو عالق في الخلف.

وهم الوصول

نُقال يوميًا: اسعَ لتكون أفضل.
ابنِ نفسك.
حقق ذاتك.
لكن لا أحد يخبرنا متى يكفي.
متى نتوقّف؟
متى يُقال: لقد وصلت؟
الجواب بسيط: لا تصل أبدًا.

لأن السوق لا يريدك أن تصل، بل أن تبقى ساعيًا.
تشتري كتابًا عن السعادة، فتقرأه لتكتشف أنك تحتاج دورة تدريبية، ثم منصة تطوير ذاتي، ثم تحديًا جديدًا، ثم عطلة خاصة، ثم أداة تنظيم وقت… ثم تعود لنفس النقطة: فارغًا تبحث عن امتلاء.

السعادة بوصفها عبئًا

لقد تحوّلت السعادة من حاجة داخلية إلى واجب اجتماعي.
يُفترض بك أن تبدو سعيدًا، أن تلتقط صورك مبتسمًا، أن تنشر إنجازاتك، أن تُظهر امتنانك طوال الوقت، حتى لو كنت منهارًا من الداخل.

صار الحزن تهمة، والتعب ضعفًا، والاكتئاب علامة فشل شخصي.
في عالمٍ يطالبك بالسعادة الدائمة، تصبح المشاعر الإنسانية الطبيعية ممنوعة.

متى فُقدت السعادة؟

ربما حين فُصلت عن المعنى.
حين صارت هدفًا مستقلًا لا يرتبط بالقيم أو العلاقات أو الغاية.
حين صار الإنسان يطلب السعادة بديلاً عن الحقيقة، والهروب عن الألم، والسكوت عن القلق.

وربما حين توقّف عن العيش، وبدأ في إدارة حياته كما لو كانت شركةً تحتاج إلى أرباح ومؤشرات أداء.

الرضا لا يأتي من الخارج

السعادة الحقيقية لا تُشرى، ولا تُخطَّط، ولا تُقاس.
إنها عرضٌ جانبي لحياة مليئة بالصدق، والبساطة، والانتماء، والعطاء.

هي لا تحتاج إلى تقنية، بل إلى انتباه.
لا إلى خطوات، بل إلى معنى.

خاتمة

في حضارة حوّلت السعادة إلى مشروع لا ينتهي، يكون التمرّد أن تعيش ببساطة، أن تحزن دون خجل، أن تفشل دون ذنب، أن تقبل نفسك كما هي.
السعادة ليست حالة دائمة، بل لحظات تمر... وتكفي.

سلسة: العبث المنظم.. نقد حضارة اللاجدوى

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡