الستر والفضيحة: حين يُحمى الظالم باسم الحياء

كلمة "الستر" من الكلمات المقدّسة في الثقافة العربية والإسلامية. يُقال إن الله ستّير يحب الستر، ويُحث الناس على الستر على العيوب والزلات، ويُعتبر كشف ستر الآخرين ضربًا من الفضائح، وسقوطًا أخلاقيًا كبيرًا.

لكن كما هو الحال في كثير من المفاهيم، فإن الستر الذي يُراد به خيرٌ في الأصل، صار يُستخدم أحيانًا كغطاءٍ للشر، وكذريعةٍ لصمتٍ طويل أمام الجريمة، والخطيئة، والظلم… باسم الحياء.

فمتى يصبح الستر فضيلة؟ ومتى يُصبح أداة لحماية الظالم وتكريس القهر الاجتماعي؟

الستر في الإسلام: بين الرفق والعدالة

لا شك أن الإسلام دعا إلى الستر، خصوصًا في ما يتعلق بالزلات الشخصية، والذنوب الخفية، والنوايا التي لا تضرّ أحدًا. وقد جاء في الحديث: "من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة".
لكن هذا الستر لا يُطبّق في حالة ظلم الآخرين، أو الإضرار بهم، أو تكرار الأذى. فالسكوت عن الفاسد، أو المتحرش، أو المعتدي، ليس سترًا… بل خيانة للحق.

حين يُستَر الظالم، لا يُحمى عِرضه، بل تُمحى العدالة.
وحين نُسكت الضحية باسم الستر، لا نحفظ كرامتها، بل نقتل صوتها مرّتين.

مجتمع السترة: حين يُدفن الألم باسم الفضيلة

في كثير من المجتمعات العربية، يجري تعليم الناس – منذ الصغر – على ثقافة "الستر أولى من الفضيحة"، وكأن الفضيحة هي العدو، لا الجريمة.

  • فتاة تتعرض لتحرش أو اعتداء، ويُقال لها: "اصمتي… لا تفضحينا".
  • أسرة تعاني من عنف داخل البيت، ويُحذَّر أفرادها من الشكوى: "خلّيها في البيت… عيب نشتكي".
  • مسؤول يرتكب الفساد، وتُمنع وسائل الإعلام من ذكر اسمه: "حفاظًا على السمعة".

وهكذا يُحمى الجاني، وتُخنق الضحية، ويُختزل الحق في كلمة: "سترًا له ولأهله".

لكن… من يستر المتضرر؟ من يداوي المنكسر؟
وأي منطق أخلاقي يجعل الستر على الظالم أولى من رفع الظلم نفسه؟

الستر كقيمة اجتماعية مختلة

في كثير من الحالات، لا يكون "الستر" نابعًا من رحمة، بل من خوف على السمعة، أو هوس بالمظهر، أو خشية من كلام الناس.
يصبح الستر عندها مجرد قناع اجتماعي، لا علاقة له بالدين ولا بالأخلاق، بل بحماية الشكل العام على حساب الحقيقة.

بل الأخطر أن هذا "الستر المزيّف" قد يُستخدم من قبل الظالمين أنفسهم، ليطلبوا السكوت عن جرائمهم:

  • "لا تفضحنا… نحن نادمون"
  • "أنتِ ستخربين بيتك إن تكلمتِ"
  • "هذا الموضوع لا يُكشف، حرام عليك"

هنا، يصبح الستر عقيدة قمعية، لا أخلاقية.

الفضيحة الأخلاقية الحقيقية: الصمت عن الباطل

إذا كان الستر هو ألا نكشف زلة مستورة، فالفضيحة الأخطر هي أن نصمت عن باطل ظاهر.
أن نُسكت من يصرخ من الألم، ونواسي الظالم بدعوى حفظ المظاهر.
أن نُربي أبناءنا على كتمان ما يحدث داخل الجدران، وإن كان فيه عنف، أو استغلال، أو فساد.

ذلك ليس حياءً ولا مروءة.
إنه تواطؤ.
إنه سترٌ للظلم، لا للعرض.

الخاتمة

الستر فضيلة حين يكون لحماية الإنسان من التشهير، لا من الحساب.
الستر رحمة حين لا يُقتل به صوت المظلوم.
أما حين يُستخدم الستر لحماية الجلاد، ودفن صوت الضحية، فإنه يصبح شريكًا في الجريمة.

فليس كل من "ستَر" كان كريمًا،
وليس كل من "قال الحقيقة" كان فاضحًا.

بل ربما يكون من الشرف أن نكشف ما يُراد له أن يُطمر، لا أن نعيش في صمت يُجمّل القبح.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡