لكن هل كل ما يُسمى أصالة يبقى نافعًا؟ وهل من الممكن أن تتحول هذه الأصالة إلى جدار عازل أمام التجديد والتفاعل الحضاري؟ متى تصبح الأصالة حائط صدّ يحول دون الانفتاح والتطور؟
الأصالة في المفهوم: حفظ الجذور لا حبسها
الأصالة، في جوهرها، هي الاحتفاظ بالقيم الأساسية التي تعكس خصوصية وهوية مجتمع ما. هي الجسر الذي يربط الحاضر بالماضي، ويُعزز الشعور بالانتماء.
لكن هذا لا يعني أن الأصالة يجب أن تكون جامدة أو تعني رفض كل جديد. بل الأصالة الحقيقية هي التي تسمح بالتجديد داخل الإطار الثقافي، لا التي تُحيط الهوية بسياج من الخوف.
عندما تتحول الأصالة إلى ممانعة للتغيير
كثيرًا ما تُستخدم كلمة "الأصالة" كـ"توابيت ثقافية" تحبس المجتمعات داخل أنماط قديمة، وتحجبها عن رؤية الواقع المتغير. نسمع عبارات مثل:
- "هذا ليس من أصالتنا"
- "لا نريد أن نُقلّد الغرب"
- "عاداتنا أقوى من كل التجارب الحديثة"
لكن هذه المواقف قد تتحول إلى أدوات عزلة حضارية، تقود إلى:
- تخلف في التعليم والتقنية
- ضعف في الاقتصاد والابتكار
- تعقيدات اجتماعية بسبب التمسك بعادات منقوصة
- عزلة سياسية وثقافية على مستوى العالم
الأصالة مقابل الانغلاق: أين الخط الفاصل؟
الفرق بين الأصالة والانغلاق هو في قدرة المجتمع على المراجعة الذاتية والانتقاء الواعي.
- مجتمع أصيل هو مجتمع يختار ما يحفظ من تراثه، ويُجدد ما يعيق تقدمه.
- مجتمع منغلق هو مجتمع يرفض كل جديد، ويتشبث بأصالة ميتة لا تلائم العصر.
هذه المراجعة ليست خيانة للأصل، بل هي دلالة على حيوية الثقافة وقدرتها على البقاء.
أمثلة حية: أين تعثرت الأصالة؟
- رفض التكنولوجيا الحديثة بحجة "التقاليد" أدى إلى تخلف بعض المجتمعات، خصوصًا في مجال التعليم والتواصل.
- الموروثات الاجتماعية التي تمنع مشاركة المرأة في سوق العمل، بحجة "الحفاظ على الشرف"، أدت إلى فقدان فرص اقتصادية هائلة.
- التشدد في القوانين والطقوس الدينية دون تكييف مع المتغيرات أدى إلى تعميق الهوة بين الأجيال.
الخاتمة
الأصالة هي ثروة حضارية يجب حمايتها، لكن ليس على حساب المستقبل.
حين تُستخدم الأصالة كسياج ضد كل جديد، تصبح عزلة حقيقية، تدفع بالمجتمعات نحو الوراء، وتُضعف قدرتها على المنافسة.
أما الأصالة الحقيقية فهي التي تُنتج ثقافة متجددة، قادرة على الحوار مع العصر، ومتحرّكة داخل حدود هويتها.
لنحفظ أصالتنا، لكن لنحررها من قيود الجمود.
