
لم يعد يُطلب منك أن تحيا حياة حقيقية، بل أن تُظهرها وكأنها كذلك.
الواقع لم يختفِ، لكنه تراجع إلى الظل، وترك الساحة للتمثيل.
لم نعد نعيش لأنفسنا، بل لجمهور غير مرئي يراقبنا من خلف الشاشات، نعرض عليه تفاصيلنا المعدّلة، ووجوهنا المصقولة، وحكاياتنا المُنتقاة بعناية... خوفًا من أن نبدو عاديين.
ولادة الإنسان المُمثِّل
لقد نشأ جيلٌ كامل لا يعرف الفرق بين أن يكون سعيدًا، وأن يبدو سعيدًا.
بين أن يعيش التجربة، وأن يصوّرها.
بين أن يشعر، وأن ينشر.
كل لحظةٍ تُلتقط، كل إنجازٍ يُعلن، كل موقفٍ يُفلتر قبل أن يُنشر.
وهكذا وُلد "الإنسان الممثّل"، الذي يحيا أمام الكاميرا، ويغيب حين تُطفأ.
حياة للاستهلاك البصري
الوجود صار مرتبطًا بالظهور.
فإن لم تُنشر حياتك، لم تعد تُرى.
وإن لم تُرَ، لم تعد موجودًا.
تغذّي المنصّات هذا الشعور، حتى يغدو الإنسان عبئًا على نفسه، خائفًا من الاختفاء الرقمي، مشغولًا ببناء شخصية افتراضية تُرضي الآخرين، ولو على حساب ذاته الحقيقية.
زمن الانفصام الجماعي
هذه الحضارة لا تطالبك بأن تكون صادقًا، بل متسقًا مع الصورة.
ولو كانت تلك الصورة كاذبة، مجتزأة، مصطنعة.
بل تُكافئك على قدرتك في الإقناع، لا على صدقك في الظهور.
وهكذا نعيش حالة انفصام جماعي:
وجوهنا في الواقع لا تشبه وجوهنا في الصور،
حياتنا الداخلية لا تنسجم مع ما نعرضه للعالم،
والأقنعة التي نظنها وسيلة للبقاء، تصبح تدريجيًّا هويتنا الوحيدة.
الاختفاء كفعل تمرّد
ربما التمرّد الحقيقي اليوم ليس في الصراخ، بل في الانسحاب.
في أن تختار أن تعيش دون أن تمثّل.
أن تحتفظ بلحظاتك لنفسك، لا لكاميرتك.
أن تفهم أنك لست محتاجًا لتبرير وجودك عبر الصور والتحديثات.
أن تجرؤ على أن تُغلق الهاتف... وتفتح حياتك.
خاتمة
في حضارة تُقاس فيها القيمة بمدى الظهور، يصبح التمسّك بالحقيقة فعلًا راديكاليًّا.
وحين يحكم التمثيل على الحقيقة، يتآكل المعنى ببطء... خلف فلاتر جميلة وصور لا تنتهي.
لقد بتنا نعيش في عالم يهمّه ما نبدو عليه، لا من نكونه.