الحياء بين الفضيلة والكمامة الاجتماعية

الحياء من أسمى الفضائل التي عُرفت في الثقافة العربية والإسلامية، حتى قيل إن "الحياء لا يأتي إلا بخير"، واعتُبر خُلقًا يدل على الطهارة والرفعة والنقاء. لكن خلف هذا المعنى المضيء، تَطوّر استخدام كلمة "الحياء" في كثير من السياقات ليصبح أداة ضبط اجتماعي خانقة، تمنع التعبير، وتبرر الصمت، وتُكمم العقول، خاصة عند النساء والشباب.

فهل ما يُسمّى "حياءً" هو فعلًا خلق نبيل؟ أم أنه في كثير من الأحيان كمامة اجتماعية تُفرض باسم الفضيلة، لكنها تُخفي وراءها قمعًا وسكونًا مفروضًا؟

الحياء في أصله: خلق النبل لا الخوف

في القرآن الكريم والحديث النبوي، جاء الحياء بوصفه خلقًا نابعًا من الشعور الداخلي بالرقابة والسمو الأخلاقي، لا من الخوف أو الذل. بل رُبط بالإيمان، وذُكر أن الله "أحيا لا إله إلا هو"، أي أنه يرحم عباده ولا يفضحهم، وأن النبي ﷺ كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، لكنه مع ذلك لم يكن ساكتًا عن الحق، ولا خجولًا عن الصدع به.

فأصل الحياء هو الوعي بالموقف، وتعظيم القيم، دون تعطيل الفعل. إنه حياء ينهى عن الفحش، لا عن الكلمة، ويُرشد السلوك، لا يُشلّ العقل.

حين يصبح الحياء قيدًا لا خلقًا

لكن في مجتمعاتنا، كثيرًا ما يُحرف الحياء عن مساره، فيتحول من خلق فردي نابع من الوعي، إلى سيف مرفوع على رقاب الآخرين، خاصة النساء. ومن الأمثلة الشائعة:

  • تُمنع الفتاة من السؤال عن أمور تخص جسدها أو حياتها، باسم الحياء.
  • يُعيَّر الشاب الذي يبكي أو يُظهر مشاعره بأنه "ما عنده حياء".
  • تُمنع مناقشة قضايا التحرش أو العنف الأسري لأن "الحديث فيها لا يليق".
  • يُسكت الطفل حين يطرح سؤالًا بريئًا أمام الكبار: "عيب، ما تستحي؟"

    وهكذا يتحوّل الحياء إلى أداة قمع ناعمة، تُغلّف باسم الفضيلة، لكنها تُستخدم لكبت الفضول، والإبداع، والمواجهة، والنقد.

    المرأة والحياء: من فضيلة إلى قيد ثقافي

    المرأة العربية خُصّت في هذا السياق بنصيب وافر من القيود. فـ"الحياء" يُفرض عليها لا باعتباره خُلقًا، بل هوية وسلوكًا مفروضًا. يُراد منها أن تكون ساكتة، مطأطئة، لا تجادل، لا تطلب، لا تسأل.
    وحين تجرؤ على التعبير عن رأيها، أو المطالبة بحقوقها، يُقال لها: "عيب، البنت المؤدبة تستحي".

    وبذلك يتحوّل "الحياء" إلى ذريعة جاهزة لتأديب المرأة وقمع صوتها، ولو لم ترتكب فاحشة أو تتجاوز أدبًا. والنتيجة: تُمدح المرأة كلما كانت صامتة ومنطوية، ويُجرَّم حضورها كلما كان فعّالًا أو واعيًا.

    الفرق بين الحياء والسكوت

    من الضروري أن نفرّق بين:

    • الحياء: شعور أخلاقي نابع من الضمير، يدفع للستر، والعدل، والتأدب مع الذات والآخرين.
    • السكوت المفروض: صمت يُفرض على الإنسان خوفًا من رد فعل المجتمع، أو خشية أن يُوصم بـ"قلة الأدب".

      الحياء لا يمنع النقد، ولا يحظر السؤال، ولا يعيب الجرأة على طلب الحقوق. الحياء الحقيقي لا يُعيق الوعي، بل يُهذّبه. أما الحياء الزائف، فهو ذلك الذي يُستخدم لمنع الشجاعة، والتستر على الفساد، وإدامة الظلم.

      الخاتمة

      إننا بحاجة اليوم إلى تحرير مفهوم الحياء من القيود التي شوّهته، وإعادته إلى أصله النبيل. فليس الحياء أن تسكت الفتاة عن التحرش، أو أن يُمنع الشاب من التعبير، أو أن يُستغلّ الدين لفرض الصمت.
      الحياء أن نُعلي القيم، لا أن نخاف المجتمع.
      أن نحترم الناس، لا أن نكتم صوتنا.
      أن نردع الفاحشة، لا أن نمنع السؤال عنها.

      فالحياء الذي يمنعنا من قول الحق، ليس حياءً… بل قيدًا باسم الفضيلة.

      +
      أحدث أقدم

      ويجيد بعد المقال


      تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

      ✉️ 📊 📄 📁 💡