
الجاحظ يكسر الصورة
في كتابه الشهير "البخلاء"، لم يكن الجاحظ مجرّد ساخر من عادات قومه، بل ناقدًا اجتماعيًا يسبر أغوار النفس العربية في مدنها وأسواقها، كاشفًا عن طبقات من البخل المقنّع والمنهجي. يعرض لنا بخلاءً لا يُنكرون بخلهم، بل يدافعون عنه بحجج عقلانية، تُقنع القارئ أحيانًا! فيصف فقيهًا لا يدعو أحدًا إلى طعامه إلا ومعه شاهد عدل، وتاجرًا يزن اللقمة قبل أن يقدّمها، ومتصوفًا يعلّل بخله بالزهد والتقوى.
الجاحظ لم يكتب عن "الاستثناء"، بل عن ظاهرة اجتماعية منتشرة. كان صريحًا بما يكفي ليقول: لا تصدقوا المبالغات. الكرم ليس دينًا عامًا، بل ربما رفاهية نادرة، أو خطابًا يُراد له أن يغطي تناقضات السلوك.
من البادية إلى المدينة: تغيّر في البنية
الكرم كما ظهر في الأدبيات الجاهلية، وخصوصًا في المجتمع البدوي، كان نابعًا من حاجة وجودية. فالضيافة في الصحراء لم تكن ترفًا، بل ضرورة لبقاء المسافر. من هنا، وُلد الكرم كقيمة مرتبطة بالشرف والنجدة، وأصبح يُقاس بها قدر الرجال.
لكن حين انتقل العرب إلى الحواضر والمدن، وتغيّرت البنية الاجتماعية والاقتصادية، لم يعد الكرم وظيفة للبقاء، بل عادة رمزية أو مناسبة موسمية. تحوّل الكرم إلى ما يشبه الطقس الاجتماعي، الذي قد يُمارَس مرة ويُهجَر مرات.
كرم الضيافة أم بخل الموقف؟
اليوم، قد ترى من يسرف في الولائم، لكنه يبخل بالوقت، أو بالكلمة الطيبة، أو بمساعدة محتاج. يُغرق بيته في الأطعمة، لكنه لا يمنح عامله راتبًا عادلًا. يرحّب بك ضيفًا، ثم يُماطل في سداد دين، أو ينكص عن وعد.
فهل الكرم الحقيقي هو المبالغة في الطعام، أم العدل والتكافل والنجدة عند الحاجة؟
وهل يمكن أن يكون الكرم شكلاً من الاستعراض الطبقي، لا الأخلاق الإنسانية؟
خطاب الكرم: صناعة صورة لا نقد واقع
الهوية العربية كثيرًا ما صيغت من قيم مثالية تُكرّر أكثر مما تُطبَّق. يُقال إن العرب أهل كرم، وأهل شهامة، وأهل فصاحة… لكن من قال إن المجتمعات لا تُجمّل صورتها؟
الكرم قد يكون أحد أقدم الأساطير الجماعية التي كرّستها الشعرية العربية، والقبلية، والخطاب الديني، ثم الإعلام الحديث، إلى درجة أنه بات مطلبًا ثقافيًا حتى ممن لا يطبّقه.
والسؤال المؤلم: كم من "بخيل" يعيش بيننا، لكنه يختبئ تحت عباءة هذه الصورة النمطية المريحة؟
الخاتمة
الكرم، كقيمة، يظل من أجمل ما يمكن أن يتحلى به الإنسان. لكن تحويله إلى شعار فوقي لا يتصل بالسلوك اليومي، لا يخدم الحقيقة ولا الواقع. وإذا أراد العرب اليوم أن يكونوا كرماء حقًا، فعليهم أن يُكرموا العدالة قبل الوليمة، والكرامة قبل القهوة، والإنسان قبل الضيف العابر.
فربّ بخيل يَعرف نفسه، خير من كريم لا يرى بُخله إلا في المرآة المكسورة للجاحظ.