
في زمنٍ كان العبث سؤالًا فلسفيًّا عن جدوى الوجود، أصبح اليوم عرضًا تلفزيونيًّا متكررًا بلا نهاية. وبينما كان ألبير كامو يكتب: "لا يوجد سوى مشكلة فلسفية جديّة واحدة، هي الانتحار"، صار الإنسان الحديث يقتل وقته لا حياته، هاربًا من الأسئلة الكبرى إلى شاشة صغيرة تُفرغه من المعنى دون أن يشعر.
تحوّلت فلسفة العبث من صرخة مقاومة في وجه اللاجدوى إلى استهلاكٍ مفرطٍ للّامعنى. فـ"ميرسول" في رواية الغريب كان يواجه الفراغ الكوني بعينين مفتوحتين، أما الإنسان المعاصر فيواجهه بإدمان الهروب... إلى حلقة جديدة، وسلسلة جديدة، وتطبيق جديد.
الترفيه بدل التفكير
لم يكن الترفيه يومًا مشكلة، لكنه حين يتحوّل إلى مركز الوجود، يصبح ستارًا سميكًا يُخفي الأسئلة العميقة. تصوَّر أن الملايين يقضون آلاف الساعات في تتبّع قصص خيالية لا تفضي إلى شيء، في حين أن حياتهم الواقعية بلا حب، بلا غاية، بلا معنى.
أي عبث هذا؟
لكنه عبث منظَّم، وموجَّه، ومُموَّل، ومسجَّل بدقة في خوارزمياتٍ تعرف جيدًا أنك ستشاهد "الحلقة التالية"... لأنك لا تملك شيئًا آخر تفعله.
حين يصبح العبث صناعة
العبث لم يعد موقفًا فلسفيًّا، بل أصبح سلعة. تصنعه شركات الإنتاج، وتبيعه المنصّات، ويُعاد تدويره في مقاطع قصيرة سريعة الهضم. وتستبدل الحكايات العميقة بسيناريوهات مُفرغة من المعنى، لكنها مشحونة بالإثارة والضجيج.
هكذا تمّت تصفية العبث من محتواه الوجودي، وتحويله إلى منتج يُضحكك، يُبكيك، يُشغلك... لكنه لا يُوقظك.
هل يمكن النجاة من العبث؟
ليس المطلوب أن نتخلّى عن الترفيه، بل أن نستعيد وعينا.
أن نفهم أن الهروب من الألم ليس حلاً، وأن الهروب من الأسئلة ليس راحة، بل تخدير بطيء.
إن فلسفة العبث، كما فهمها كامو، كانت صرخة من أجل التمرد على اللامعنى، لا الانغماس فيه.
فهل نملك الشجاعة لنتوقّف لحظة؟
أن نُطفئ الشاشة؟
أن نسأل: لماذا نعيش؟ لا: ماذا نشاهد؟
خاتمة:
العبث المعاصر ليس فراغًا عشوائيًّا، بل نظام دقيق يُشغلك عن ذاتك، ويملأ وقتك ليُفرغ روحك.
إنه عبث... لكن مُنظّم.