
لم يعد السؤال: كيف نحيا؟ بل: هل لا نزال بشرًا أصلًا؟
في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا، وتُستبدَل فيه القيم بالبيانات، والمعاني بالخوارزميات، دخلنا مرحلةً يُعاد فيها تعريف الإنسان نفسه، لا من الداخل... بل من الخارج.
الذات المعاد تشكيلها
في الماضي، كان الإنسان يبحث عن المعنى في داخله:
في الضمير، في الروح، في التجربة، في الألم، في المحبة.
أما اليوم، فالإنسان يُعاد تعريفه عبر ما يُظهره:
صورتك، سيرتك الذاتية، نشاطك الرقمي، تقييمك، موقعك في السلم الإنتاجي.
هويتك لم تعد شعورًا داخليًا بل ملفًا رقميًا.
روحك لا تُهم، ما دام سلوكك قابلًا للتتبع والتحليل والتوجيه.
تشييء الإنسان: من ذات إلى "مستخدم"
هل لاحظت كيف تغيّر اللفظ؟
لم نعد نسأل: ما الإنسان؟ بل: كيف يستخدم؟
نحن الآن "مستخدمون"، في كل التطبيقات، وكل المنصات.
المهم ليس من أنت، بل كم تنتج، كم تستهلك، كم تُمضي من الوقت، وكم تُضيف من بيانات.
لقد تم تقليص الإنسان إلى وظيفة في منظومة إنتاجية، لا يشعر، بل يُحسب.
نهاية الذات المستقلة
في مرحلة ما بعد الإنسان، لا يُسمح لك أن تكون مستقلًا.
تُقنعك الخوارزميات بما تحب، وتُرشِّح لك الأصدقاء، وتُخبرك بمتى ترتاح، وماذا تقرأ، بل ومتى تحزن.
كل شيء مُبرمج، حتى اللاوعي.
وكلما خُيّل إليك أنك تختار، كانت خياراتك جزءًا من نمط محسوب سلفًا.
الإنسان كمنتَج
حين يُصبح الإنسان منتجًا رقميًّا، يصبح قابلاً للاستبدال.
متى ما توقّف عن الأداء، يُهمَّش.
متى ما مرض، يُنسى.
متى ما فكر خارج النمط، يُلغى.
لقد دخلنا زمنًا لا يُرى فيه الإنسان كغاية، بل كوسيلة.
وسيلة لزيادة التفاعل، لجذب الانتباه، لتحقيق النمو، لصناعة "الضجيج".
أين يذهب المعنى؟
المعنى لا يُخلق بالذكاء الاصطناعي.
ولا يُنتَج بالمصانع، ولا يُحفظ في السيرفرات.
المعنى ينبع من شيء لا يمكن قياسه:
التجربة الإنسانية، التأمل، الألم، الحب، التناقض، الموت.
في زمن ما بعد الإنسان، كل هذا يُختزل.
يُحذف لأنه غير نافع، غير محسوب، غير مبرمج.
وبذلك، يُفقد المعنى.
خاتمة
إن أخطر ما في "ما بعد الإنسان" ليس التكنولوجيا، بل فقدان المعنى.
أن يتحوّل الإنسان إلى آلة وظيفية، دون روح، دون غاية، دون سؤال.
والطريق إلى المقاومة يبدأ بالسؤال ذاته:
من أنا؟
ولماذا أعيش؟
وإلى أين أمضي؟