
كم شهادة حصلت؟ كم مشروع أنهيت؟ كم خطوة مشيتها؟ كم ساعة نمت؟
حتى النوم صار يُحسب بالإنجاز.
نحن في زمنٍ لم يعد يكفي فيه أن تكون حيًّا، بل عليك أن تبرّر حياتك بالأرقام، وتبرهن على وجودك بالنتائج.
الركض المستمر لم يعد خيارًا، بل صار شرطًا للبقاء... النفسي والاجتماعي.
ولادة الإنسان المنتج
منذ الطفولة، يُلقّن الإنسان أن قيمته في ما يحققه.
يُربّى على التنافس، لا الاكتشاف،
على الامتحان، لا التأمل،
على المردود، لا المعنى.
وهكذا يولد "الإنسان المنتج"؛ كائن لا يرتاح إلا حين يتفوق، ولا يثق في نفسه إلا حين يُقارن، ولا يشعر بالجدوى إلا حين يُصفّق له الآخرون.
هوس التقدم المستمر
المشكلة ليست في الإنجاز، بل في جعله مقياسًا وحيدًا للجدارة.
حين يتحوّل التطوير الذاتي إلى عبء دائم، يصبح الإنسان مشروعًا مؤجَّلاً، لا يُسمح له بأن يكون كائنًا ناقصًا، أو مُتعبًا، أو في حالة راحة.
لا أحد يُشجَّع اليوم على أن يتوقّف، أو أن يكتفي، أو أن يقول: أنا هكذا... وهذا كافٍ.
بل يُدفع دفعًا نحو تطوير نفسه إلى ما لا نهاية، وكأنّه آلة قيد التحديث المستمر.
الإجهاد الوجودي
تحت وهم الإنجاز، يعيش الإنسان المعاصر حالة من الإجهاد الوجودي؛
قلقٌ دائم من التأخّر عن الآخرين،
خوفٌ من أن يمضي العمر دون إنجاز يُذكر،
إحساسٌ مستمر بأن ما يُنجزه لا يكفي.
هذا القلق لا يأتي من الداخل، بل من نظامٍ يُغذّي الشعور بالنقص عمدًا، كي يبقى الإنسان مستهلكًا للبرامج، والمحفّزات، والدورات، وتطبيقات تتبّع الإنجاز.
المعنى لا يُقاس بالأرقام
الإنجاز الحقيقي ليس دائمًا قابلًا للقياس.
حبّ عميق، لحظة صدق، فكرة تأمّل، نظرة نحو السماء...
كلّها أشياء لا تُنشر على لينكدإن، ولا تُسجَّل في تطبيقات، لكنها أكثر إنسانية من ألف شهادة.
خاتمة
في حضارة تُعلي من شأن الإنجاز وتحتقر السكون، يصبح التمرّد هو أن تقول: كفاني ما أنا عليه.
أن تدافع عن حقك في أن تكون، لا فقط أن تنجز.
أن تعيش لا لتُبهِر، بل لتفهم، وتشعر، وتترك أثرًا لا يقبل القياس.