
في زمنٍ كثرت فيه أدوات "توفير الوقت"، أصبح الإنسان أكثر انشغالًا من أي وقت مضى.
والسؤال الحقيقي لم يعد: كيف نقضي وقتنا؟
بل: من الذي يقرّر كيف نقضيه؟
لقد اختُطف الزمن من الإنسان، لا على يد لصوص، بل على يد نظمٍ تعرف كيف تُعيد برمجة أولوياته، وتملأ يومه بالتفاهات، وتجعله يلهث خلف مهام لا تنتهي... بينما تمرّ الحياة دون أن يشعر بها.
حين صار الزمن ملكًا للآلة
في المجتمعات الحديثة، لم يعد الزمن تجربة شخصية، بل نظامًا خارجيًّا صارمًا.
تقويمات رقمية، جداول دقيقة، تنبيهات متواصلة، وإيقاع متسارع لا يرحم.
كل دقيقة يجب أن تُستثمر، كل لحظة يجب أن تُحسب.
وإن جلستَ بلا عمل، شعرتَ بالذنب، كأنك تسرق من العالم شيئًا لا تستحقه.
الزمن لم يعد لك، بل للوظيفة، للمؤسسة، للخوارزمية.
وأنت مجرد ممرٍّ له، لا مالكٌ له.
ماذا فعلت اليوم؟
هذا السؤال البسيط صار عبئًا ثقيلًا.
يجب أن يكون لديك قائمة منجزات، خطوات محسوبة، حركة دائمة.
حتى وقت الراحة صار يجب أن يُخطَّط: استراحة ذكية، نوم عميق، تأمل موجَّه...
كأننا نُمنع من أن نرتخي، أن نضجر، أن نملّ بلا تأنيب ضمير.
اغتيال اللحظة
في خضمّ الركض وراء "ما يجب فعله"، تم اغتيال اللحظة الحاضرة.
فلا نحن نعيش الماضي، ولا نلمس الحاضر، ولا نبلغ المستقبل.
نحن عالقون في زمن اصطناعي، لا يشبه نبض القلب ولا إيقاع الروح.
الهاتف يسرق أول ساعات يومنا، والمنصّات تسرق ليالينا، والمهام الصغيرة تبتلع فراغنا، حتى لم يبقَ للزمن الحقيقي مكان.
استعادة السيادة على الوقت
لا يمكن أن نستعيد ذاتنا ما لم نستعد زمننا.
أن نعود لننظر في الساعة لا لنركض، بل لنتوقّف.
أن نختار كيف نمضي وقتنا، لا أن نُستَدرَج إليه.
ربما علينا أن نُبطئ عمدًا.
أن نترك لحظة فارغة، بلا هدف.
أن نتأمّل، لا نُنجز.
أن نعيش الوقت... لا نستهلكه.
خاتمة
الزمن ليس آلة تعمل من تلقاء نفسها، بل معنى يُصاغ بحسب نظرتنا إلى الحياة.
وما لم نُحرّر زمننا من قبضة النظام، فلن نحرّر أنفسنا من عبودية العصر.
الوقت الضائع ليس هو الذي لم نملأه، بل الذي ملأناه بما لا يستحق.