دولة تحت المجهر: الأردن – استقرار هشّ بوظيفة إقليمية

يُنظر إلى الأردن باعتباره واحدًا من أكثر دول المنطقة استقرارًا وسط بحر من الفوضى. لكن هذا الاستقرار لم ينتج عن بنية صلبة أو شرعية داخلية، بل عن موقع وظيفي دقيق في الجغرافيا السياسية، مدعوم خارجيًا ومتوتر داخليًا. الدولة تبدو ثابتة، لكن تحت السطح يغلي مجتمع محبط واقتصاد مأزوم، ونظام هشّ محكوم بتوازنات دقيقة بين الخارج والعشيرة والمخابرات.

1. بنية النظام ومصادر السلطة
يحكم الأردن نظام ملكي دستوري، لكنه في الواقع نظام ملكي مطلق بغطاء دستوري مرن.
الملك هو مركز الثقل الأوحد: يُعيّن الحكومات، ويُحلّ البرلمان، ويتحكم في أجهزة الأمن والجيش، بل وفي القضاء أحيانًا.
السلطة موزعة بين القصر، والديوان، والمخابرات، مع دور كبير للنخب العشائرية في الداخل، لكن لا وجود فعلي لمؤسسات مستقلة أو برلمان فعال.
شرعية النظام تقوم على "الاستمرارية" و"الوظيفة" أكثر من كونها نابعة من عقد اجتماعي حديث. والأمن هو الضامن الأساسي، لا الدستور.

2. المشكلات الحالية (الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، المسكوت عنها)
الأزمة الأخطر اليوم هي اقتصادية:

  • البطالة تتجاوز 23%، وتقترب من 50% بين الشباب.
  • الدين العام بلغ أكثر من 50 مليار دولار، أي ما يزيد عن الناتج المحلي.
  • القطاع الإنتاجي ضعيف، والتضخم يضغط على الفئات الفقيرة.
  • معظم الدعم الدولي يُستهلك لتسديد الرواتب والديون، لا للاستثمار أو التنمية.

سياسيًا، المجال العام مغلق:

  • البرلمان بلا تأثير حقيقي، والنقابات تحت الرقابة.
  • قوى المعارضة إما مهادنة أو مهمشة، وأي حراك يُواجه بسرعة أمنية عالية.
  • لا يوجد تداول فعلي للسلطة، بل تغيير وجوه داخل بنية ثابتة.

الشق الاجتماعي يُظهر مزيجًا من التوترات الصامتة:

  • الانقسام الخفي بين الأردنيين من أصول شرق أردنية وفلسطينية.
  • مركزية عمّان مقابل تهميش الأطراف والمحافظات.
  • الاحتقان بين الشباب والسلطة، وفقدان الثقة بأي وعود إصلاحية.

والمسكوت عنه:

  • دور المخابرات في تعيين المسؤولين وتحديد السياسات.
  • تفكيك الطبقة الوسطى بالتقشف.
  • الاستخدام المفرط للقبضة الأمنية كحل وحيد لأي أزمة.

3. الدور الجيوسياسي والوظيفي للدولة
الأردن ليس دولة مستقلة القرار، بل دولة وظيفية تلعب دورًا إقليميًا محددًا:

  • حليف تقليدي للولايات المتحدة وإسرائيل.
  • بوابة لتسويات إقليمية (مثل القضية الفلسطينية وخط الغاز وغيره).
  • ملاذ آمن للاجئين، وساتر أمني لإسرائيل من الشرق.

في مقابل هذا الدور، يتلقى الأردن دعمًا ماليًا سخيًا، لكنه دعم مشروط وظيفيًا، لا مجانيًا.
سياسات الدولة الخارجية تُدار وفق منطق "عدم الصدام مع الأقوياء"، وليس وفق مصالح استراتيجية مستقلة.

4. الاقتصاد الحقيقي للدولة
الاقتصاد الأردني ريعي بالكامل:

  • يعتمد على المساعدات الخارجية، والتحويلات، والخدمات (السياحة، التعليم).
  • لا وجود لاقتصاد إنتاجي صناعي أو زراعي قوي.
  • القطاع الخاص هش، ويعاني من البيروقراطية والاحتكار.
  • النخب الاقتصادية قريبة من السلطة، وتحظى بإعفاءات وتسهيلات، بينما تُرهق الطبقات الفقيرة بالضرائب والغلاء.

الجيش لا يسيطر على الاقتصاد كما في مصر، لكن المؤسسات الأمنية لها نفوذ واسع في العقود والمشروعات الكبرى.
كما أن هناك اقتصاد ظل قائم على الولاءات، والمصالح العشائرية، واحتكار النفوذ.

5. الإعلام والخطاب مقابل الواقع
الخطاب الرسمي يُسوّق الأردن كـ"أنموذج للاستقرار"، و"دولة القانون"، و"الإصلاح المتدرج"، بينما الواقع يعكس عكس ذلك:

  • الإعلام الرسمي مروّض، والرقابة قوية، والسوشيال ميديا تحت المراقبة الأمنية.
  • الخطاب العام يُراهن على صورة "الملك القريب من الناس"، لكن السياسات تُدار من فوق وبعيدًا عن الشعب.
  • الصورة الإعلامية هي واجهة مدعومة خارجيًا، تغطي على الفقر، والبطالة، والاحتجاجات الشعبية المتكررة.

التناقض بين الخطاب والواقع لا يمر بلا أثر: الناس لا تصدق ما يُقال، وتبحث عن الحقيقة في الخارج، أو في الهامش.

6. حالة المجتمع: بين الولاء التاريخي والاستياء الحديث
المجتمع الأردني يتشكل من مركب عشائري-مدني متداخل، جعل الولاء تقليديًا للملك والدولة.

لكن الأجيال الجديدة تغيّرت:

  • لم تعد العشيرة قادرة على ضبط المزاج العام.
  • الشباب غاضب، ساخط، محبط من الانسداد الاقتصادي والسياسي.
  • الحراك الشعبي، رغم القمع، يتكرر في شكل مظاهرات نقابية، واحتجاجات محلية، وموجات استقالة صامتة من الدولة.

الطبقة الوسطى تنزف، والفقراء يزدادون، والتعليم يتراجع، والهجرة الفكرية والمعرفية تتسع.

7. سيناريوهات المستقبل
ثلاث سيناريوهات تلوح في الأفق:

  • استمرار المعادلة الحالية: دعم خارجي + ضبط أمني داخلي، مع تجميد أي إصلاح حقيقي.
  • انفجار اجتماعي غير منظم: إذا فشلت الدولة في احتواء الضغوط الاقتصادية والسياسية المتراكمة.
  • تحوّل محكوم من أعلى: بانفتاح سياسي محدود لتخفيف الضغط الخارجي والشعبي، دون تغيير جوهري في بنية الحكم.

السيناريو الأقرب؟
تآكل بطيء في شرعية النظام، مقابل قدرة تكتيكية على البقاء… لكن دون مشروع وطني قادر على إعادة بناء الدولة من الداخل.

8. خاتمة تحليلية
الأردن دولة قائمة على حافة دقيقة: بين البقاء كوظيفة إقليمية وبين التحلل من الداخل تحت وطأة الأزمات المكبوتة.
ما لم تتحوّل الدولة من كيان وظيفي إلى دولة منتجة وعادلة وقادرة على تمثيل شعبها، فإن الاستقرار سيتحوّل من نعمة إلى قيد، ومن ميزة إلى عبء.
والسؤال المفتوح: متى يُعاد تعريف الأردن بوصفه وطنًا لا دورًا؟ مشروعًا لا ممرًا؟

سلسلة: دولة تحت المجهر

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.