دين الوظيفة السياسية: الزردشتية الحديثة في إيران: بعث تراثي لخدمة قومية فارسية؟

في قلب التحولات السياسية والثقافية التي عرفتها إيران الحديثة، ظهر اهتمام متزايد بإحياء الزردشتية، ليس بوصفها عقيدة دينية فحسب، بل كرمز لهوية فارسية "نقية" ما قبل الإسلام. لقد تجاوز هذا البعث حدود التراث الديني، ليتم توظيفه في سياقات سياسية، ثقافية، وحتى دعائية، لإعادة رسم معالم "الذات الإيرانية" على نحو يختلف جذريًا عمّا رسّخته قرون من التشيع السياسي والولاء العابر للحدود. فهل نحن أمام حركة روحية حقيقية، أم مشروع هندسة ثقافية موجّه؟

الزردشتية: من دين عالمي إلى تراث قومي

الزردشتية، التي كانت يومًا ديانة إمبراطورية كبرى تمتد من الهند إلى البحر المتوسط، تحوّلت في القرون الأخيرة إلى عقيدة هامشية تقتصر على مجتمعات صغيرة في إيران والهند (البارسيين). لكن مع صعود القومية الفارسية في أوائل القرن العشرين، أعيد استحضار الزردشتية كرمز "فارسي أصيل" يعكس عظمة ماضية تم محوها – حسب الخطاب القومي – بفعل الفتح الإسلامي.

هذه النظرة لم تنبع من داخل رجال الدين الزردشتيين التقليديين، بل من دوائر ثقافية وعلمانية، استثمرت في تصوير "الدين الزردشتي" كخزان هوية عرقية، أكثر منه كمنظومة إيمانية.

بين رضا شاه والخطاب الآري الجديد

خلال عهد رضا شاه بهلوي، سعى النظام لتغليب القومية الفارسية على الهويات الدينية والعرقية المتعددة في إيران، فتم الترويج للزردشتية في المناهج، وتبجيل شخصيات مثل كورش وداريوس، بوصفهم رموزًا للحضارة الإيرانية القديمة. وفي هذا السياق، صارت الزردشتية مرادفة للهوية الآرية، في تماهٍ مع الاتجاهات الأوروبية آنذاك التي مجّدت "العرق الآري" كمصدر تفوّق حضاري.

ورغم أن النظام لم يُعد الزردشتية دين الدولة، فإن استحضارها كان يُستخدم ضمنيًا لمعارضة التأثير العربي والإسلامي، ولإعادة تأهيل إيران ككيان "قبل-إسلامي" يتفوق حضاريًا على محيطه.

ما بعد الثورة: الزردشتية في مواجهة التشيّع السياسي

بعد الثورة الإسلامية عام 1979، تقلّص حضور الزردشتية مجددًا، وصارت أقرب إلى "أقلية معترف بها"، لكنها لا تتمتع بنفس النفوذ. غير أن المفارقة أن النزعة القومية الفارسية لم تمت، بل عادت بقوة في أوساط الشباب الإيراني، لا سيما في فترات الغضب من سلطة رجال الدين.

في هذا السياق، ظهرت موجات من "الحنين الزردشتي"، تجلّت في احتفالات نوروز، أو تبجيل رموز النار والنقاء، أو حتى العودة الشكلية إلى بعض الطقوس القديمة، خاصة في المدن الكبرى أو في الشتات الإيراني.

بعض هذه الحركات اتخذت طابعًا سياسيًا، ورفعت شعارات من قبيل: "إيران للإيرانيين"، في تحدٍ مباشر لما يُعتبر "هيمنة عربية أو إسلامية" على التراث القومي، ما يجعل الزردشتية هنا ليست دينًا، بل أداة مقاومة ثقافية.

الزردشتية الجديدة: دين بلا إله؟

من المفارقات اللافتة أن كثيرًا من دعاة "العودة للزردشتية" لا يؤمنون بها بوصفها ديانة توحيدية أو منظومة روحية. بل يُعاد تأويلها لتكون "فلسفة أخلاقية" أو "نهج حياة" قائم على العقلانية، والتوازن بين الخير والشر، دون طقوس تقليدية.

هذا التحول يُشبه ما وقع في البوذية الغربية الحديثة، التي تحوّلت من دين إلى "تأمل وممارسة ذهنية"، ويتماثل أيضًا مع محاولات غربية لإعادة هندسة الأديان لتناسب خطابًا حداثيًا، منزوع الدوغما.

أداة قومية أم بديل روحاني؟

يبقى السؤال الأهم: هل الزردشتية الحديثة مجرد مشروع لإعادة تعريف الهوية الإيرانية في مواجهة ثقل الإسلام الشيعي؟ أم أنها محاولة روحية صادقة لاستعادة ما تراه بعض النخب ضائعًا من تراثها الأصيل؟

ما لا شك فيه أن توظيف الدين كرمز سياسي ليس جديدًا في تاريخ الأمم. غير أن خطر هذا التوظيف يكمن في اختزال الإيمان إلى أداة أيديولوجية، وتحويل الدين إلى شعار في معركة الهويات، بدل أن يبقى مسارًا للمعنى والوجود.

سلسلة: دين الوظيفة السياسية

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.