دين الوظيفة السياسية: التشيّع الصفوي: حين صاغت الدولة عقيدة شعبها بالسيف

في القرن السادس عشر، لم تكن إيران دولة شيعية كما نعرفها اليوم، بل كانت سنّية الهوى والغالبية، متداخلة مذهبيًا مع جوارها العثماني والوسط الإسلامي الأوسع. لكن مجيء الدولة الصفوية غيّر مسار التاريخ الديني والسياسي للمنطقة، حين قررت تحويل التشيّع من أقلية ثقافية دينية إلى هوية رسمية للدولة تُفرَض على الجميع، وتُصاغ عبرها روح الأمة الجديدة.

لم يكن التشيّع الذي تبنته الدولة الصفوية تعبيرًا عن اعتقاد شعبي أصيل، ولا حتى ناتج تطور فقهي داخلي، بل كان أداة استراتيجية لبناء تمايز سياسي ضد المحيط السنّي، ولا سيما ضد العثمانيين. هذا التشيّع لم يكن ورعًا، بل مشروع حكم، وأداة مركزية لفرض الهيمنة.

صناعة الهوية بالقوة

اعتمد الصفويون في فرض التشيّع على حملة منظمة من الإرهاب الديني، والقتل الجماعي، وإبادة الرموز السنيّة، وإحلال خطاب الكراهية الطائفية. أُجبر العلماء على الهجرة أو القتل، وقُطعت الألسنة التي ترفض لعن الصحابة، وسُحقت كل ملامح المخزون السني الممتد قرونًا في بلاد فارس.

وحتى ينجح المشروع، استورد الشاه إسماعيل علماء من جبل عامل اللبناني (مثل المحقق الكركي) لتأسيس بنية مذهبية "جاهزة" تنسجم مع مشروعه، وتم استنساخ مؤسسات فقهيّة تُشرعن الدم والفتاوى اللازمة لمحو المخالفين.

ما بعد القهر: التشيّع كهوية سياسية

في غضون عقود قليلة، نجحت الدولة الصفوية – بقوة الحديد والنار – في إنتاج جيل جديد لا يرى الإسلام إلا عبر منظور التشيّع الإمامي الاثني عشري، ويعاد تشكيل وعيه الجماعي بما يتوافق مع وظيفة الدولة. وهكذا، تحوّلت الطائفة من مجموعة مذهبية إلى أمة سياسية، لها سرديتها، وأعداؤها، وطقوسها التعبوية.

لكن النتيجة الأهم لم تكن دينية بقدر ما كانت جيواستراتيجية: فقد أصبح التشيّع جدارًا عقائديًا صلبًا أمام العثمانيين السنّة، وأداة داخلية للسيطرة على الشعب باسم "الحق المذهبي"، مما جعل "الدين الجديد" حاميًا للعرش، لا لرسالة.

إرث حاضر: من الولاء للمذهب إلى الولاء للدولة

لم ينته المشروع الصفوي بانتهاء دولته، بل تحوّل إلى عقيدة قومية غير معلنة، تُستخدم حتى اليوم في الجمهورية الإسلامية، حيث يعاد إنتاج الولاء السياسي عبر مفردات مذهبية مبرمجة. لقد صار الدين في إيران ليس فقط وسيلة قمع، بل لغة رسمية للهوية الوطنية، تُدار عبرها أجهزة الدولة، والعلاقات الخارجية، وصناعة "العدو" الداخلي والخارجي.

وإذا كانت بعض الطوائف في التاريخ تحالفت مع السلطة، فإن الصفويين لم يكتفوا بتحالف، بل أعادوا تشكيل الدين نفسه على مقاس الحكم، بما جعل هذا المثال من أوضح أشكال "الدين المصنع" لأهداف سياسية صِرفة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.