العرب بين واشنطن وبكين: توازن على حافة التبعية

في زمن الاستقطاب العالمي بين واشنطن وبكين، تبدو كثير من الأنظمة العربية وكأنها تمارس نوعًا من "التوازن الذكي"، تربط علاقاتها بالولايات المتحدة، وتحجز مقعدًا في قطار الصين الصاعد. لكنها في الواقع، ليست طرفًا حرًا في معادلة التوازن، بل عالقة في شبكة من التبعية المتشابكة، تبدأ من الأمن وتنتهي بالاقتصاد والتكنولوجيا.
فهل نحن أمام سياسة براغماتية تحفظ السيادة، أم أمام تبعية مزدوجة تتخفّى تحت قناع "الحياد الإيجابي"؟
وهل بإمكان دولنا أن تنأى بنفسها فعلًا عن صراعات الكبار، أم أنها مجرد أدوات في لعبة لا تصنع قواعدها؟

وهم التوازن الاستراتيجي

تحاول بعض العواصم العربية تصدير صورة دبلوماسية توحي بأنها تقف على مسافة واحدة من واشنطن وبكين: توقّع شراكات اقتصادية مع الصين في البنية التحتية والطاقة، وتشتري التكنولوجيا من هواوي، ثم تُجدد اتفاقيات الدفاع والتدريب مع أمريكا، وتستورد أسلحتها، وتستضيف قواعدها.
لكن هذا الخطاب الذي يبدو وكأنه نضج دبلوماسي، يخفي واقعًا أكثر هشاشة: معظم الأنظمة العربية ما زالت أمنها الداخلي وشرعيتها الخارجية مرهونة بالمظلة الأمريكية، في حين أن ارتباطها بالصين يظل سطحيًا، لا يرقى إلى فك التبعية.

إن التوازن الحقيقي يتطلب قدرة ذاتية على اتخاذ القرار، وبنية اقتصادية مستقلة، ومؤسسات سيادية فاعلة. أما "اللعب بين الكبار" من موقع العجز، فهو ليس سياسة، بل محاولة يائسة لشراء الوقت.

الصين ليست منقذًا.. حتى الآن

رغم التوسع الصيني في المنطقة من خلال "الحزام والطريق"، وتكثيف الاستثمارات في الموانئ والاتصالات والطاقة، لم تطرح بكين بعد بديلًا أمنيًا أو سياسيًا حقيقيًا للهيمنة الأمريكية. الصين تُدير مصالح لا تحالفات، ولا تمتلك شبكات نفوذ داخل الأنظمة العربية، ولا تسعى لنقل نموذج سياسي أو حماية حلفاء كما تفعل واشنطن.

براغماتيتها الصارمة تجعل منها شريكًا اقتصاديًا لا أكثر. إذ لا تقترن استثماراتها بشروط سياسية، لكنها أيضًا لا تتدخل لحماية من يتعاون معها. فلا ضمانات، ولا دعم سياسي، ولا "مظلة استقرار" بديلة. لذلك، التحول نحو الصين غالبًا ما يكون ورقة تفاوضية مع واشنطن، لا خيارًا استراتيجيًا حقيقيًا.

واشنطن: الوصي التاريخي على "الاستقرار"

في المقابل، لا تزال الولايات المتحدة تمسك بالمفاتيح الفعلية للمنطقة: القواعد العسكرية، شبكات الاستخبارات، التحكم بالمؤسسات المالية الدولية، و"الفيتو" الدبلوماسي.
تدعم الأنظمة مقابل الولاء، وتُعاقب المتمرّدين على النسق الأمريكي بالعقوبات، أو الضغوط الحقوقية، أو التلويح بسيناريوهات عدم الاستقرار.

ففي نظر واشنطن، العلاقة مع الصين مسموح بها فقط داخل حدود واضحة، وإلا فالتهمة جاهزة: تهديد لـ"الاستقرار الإقليمي". وحتى من يتقارب مع الصين، يفعل ذلك بحذر وتحت السقف الأمريكي، ما يؤكد أن الهيمنة الغربية لا تزال الإطار المرجعي.

السيادة المؤجَّلة والقرار المصادَر

يُكثر الخطاب الرسمي في بعض العواصم العربية من الحديث عن "القرار المستقل"، لكنه يتناسى أن السيادة لا تُبنى بالمال وحده، بل بمؤسسات قوية، وبنية أمنية وطنية، واستقلال في مصادر القوة.
حين تكون الأجهزة الأمنية مدربة في مدارس الناتو، والاقتصاد مربوط بالمصارف الغربية، والبنية الرقمية مرهونة لتكنولوجيا صينية، فإن "تنويع الشركاء" يصبح تشظيًا في التبعية لا تنويعًا في الخيارات.

هيمنة مزدوجة بين سلاح أمريكا وتكنولوجيا الصين، وسط غياب مشروع وطني حقيقي يُحدد الأولويات. النتيجة: انكشاف استراتيجي بدل التوازن السيادي.

من التوازن إلى الإرادة

التحرر من فخ التبعية لا يكون بالمناورة الظرفية بين القطبين، بل ببناء عمق داخلي يُمكّن من اختيار الحلفاء بحرية.
مشروع الاستقلال يبدأ من السيادة الغذائية، وتوطين التكنولوجيا، وبناء تعليم وطني، وتطوير اقتصاد إنتاجي، لا ريعي.
يمكن الاستفادة من الصين وأمريكا وغيرهما، لكن من موقع الندّية، لا التبعية. ومن خلال بوصلة وطنية واضحة، لا دبلوماسية مرتجلة تحاول استرضاء الجميع في الوقت نفسه.

الفرصة التي لم تُلتقط

التنافس بين القوى الكبرى ليس لعنة، بل فرصة إن وُجدت رؤية. العالم العربي أمام مفترق حاسم: إما أن يتحول إلى ساحة صراع بالوكالة، أو يبلور مشروعًا نهضويًا يستفيد من التحولات لصالحه.
لكن دون امتلاك القرار والسيادة الفعلية، ستظل الأنظمة تراهن على الخارج بدل بناء الداخل.
ومع كل خطوة تُحسب لصالح "التوازن"، يظل الواقع يقول: لسنا أطرافًا في الصراع، بل أدوات داخل قواعده.

خاتمة

في زمن تعددية الأقطاب، يبدو التوازن بين واشنطن وبكين خيارًا ذكيًا على الورق، لكنه وهم خطير ما لم يُبنَ على استقلال حقيقي. فالعالم العربي لا يحتاج إلى شركاء أكثر بقدر ما يحتاج إلى إرادة حقيقية وسيادة داخلية.
الاختبار ليس في عدد الاتفاقيات، بل في عمق المشروع الوطني الذي يقف خلفها.
ومن دون هذا المشروع، ستبقى "اللعبة بين الكبار" مسرحًا يُستهلك فيه العرب، لا يُصنعون فيه.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.