الهدوء مقابل الحسم: هل دخلت حرب غزة مرحلة "التجميد الاستراتيجي"؟

رغم استمرار الغارات والضحايا في قطاع غزة، إلا أن وتيرة العمليات العسكرية الكبرى تراجعت بشكل لافت خلال الأسابيع الأخيرة. لا اجتياح بري شامل، ولا انسحاب واضح، ولا مفاوضات جادّة تلوح في الأفق. كل شيء متجمّد في الظاهر، لكن النار لا تزال مشتعلة تحت الرماد.

فهل ما يجري هو تراجع مؤقت بفعل الضغوط الدولية، أم أننا أمام استراتيجية متعمدة تهدف إلى كسر إرادة المقاومة عبر الإنهاك المستمر؟
وهل دخلت الحرب في غزة مرحلة "تجميد استراتيجي" يعيد رسم المعادلات الإقليمية، بانتظار حسابات أكبر من الدم والدمار؟

بين الضغط العسكري والسياسي

منذ بدايات العدوان، حاولت إسرائيل فرض حسم عسكري خاطف، لكنها اصطدمت بواقع ميداني معقد، ومقاومة شرسة أعاقت أهدافها المعلنة. ومع تصاعد القتل الجماعي وانكشاف المجازر، بدأت الضغوط الغربية تتراكم، ليس بدافع أخلاقي، بل خوفًا من فقدان السيطرة الإقليمية وتنامي التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع الغربي والعربي على حد سواء.
هنا بدأ التحول: من الهجوم المكثف إلى تكتيك "القصف المدروس"، ومن مسرحية نزع الأنفاق إلى استنزاف المقاومة دون ضجة إعلامية، في ما يشبه عملية تعذيب بطيء للوعي الجمعي الفلسطيني.

هل فقد الاحتلال زمام المبادرة؟

الواقع أن الجيش الإسرائيلي فقد عنصر المفاجأة منذ الأسبوع الأول، وتحوّلت عملياته إلى ردود فعل غاضبة لا استراتيجية واضحة. كلما انسحب من منطقة، عاد إليها مجددًا، وكلما أعلن تدمير قدرات المقاومة، عادت الأخيرة لتُثبت فاعليتها.
في هذا السياق، يُطرح سؤال جوهري: هل ما يجري هو بداية اعتراف ضمني بالفشل العسكري، وتحوّل إلى حالة تجميد محسوبة؟
أي بقاء الاحتلال في حالة حرب منخفضة الشدة، تُبقي القطاع تحت النار، وتمنع أي إنجاز سياسي، وتضغط تدريجيًا على صمود المدنيين والبنية التحتية.

التجميد: خيار استراتيجي أم مأزق حقيقي؟

قد يبدو هذا التجميد في مصلحة إسرائيل ظاهريًا: لا انسحاب، ولا انتصار، بل احتواء للوضع مع كسر إرادة غزة ببطء. لكن الحقيقة أن الاحتلال عالق في معادلة خاسرة: الاستمرار يُضعف صورته أمام العالم ويُنهك جيشه، والانسحاب يُعد هزيمة صريحة، والتصعيد قد يُشعل الإقليم بأكمله.
أما المقاومة، فرغم الكلفة الإنسانية الهائلة، لا تزال تحافظ على تماسكها، مما يُبقي الحرب في حالة "لا غالب ولا مغلوب" معلّقة، تخضع لحسابات دولية أكبر.

صمت الأنظمة... وتحوّلات الإقليم

في خضم هذا الجمود، تراجع الضجيج الإعلامي العربي، واختفى كثير من المواقف الرسمية تحت ذريعة "العمل خلف الكواليس". لكن هذه الكواليس لم تُنتج وقفًا للعدوان، بل حافظت على هدوء إعلامي مقابل صمت سياسي.
والأخطر من ذلك، أن بعض الأنظمة قد تجد في هذا التجميد فرصة لإعادة ترتيب أولوياتها مع واشنطن أو تل أبيب، تحت عنوان "وقف الحرب مقابل الاستقرار"، أي تطبيع على حساب الدم.
في المقابل، تبرز تحوّلات في وعي الشعوب، التي بدأت تدرك أن لعبة الهدوء مقابل الحسم لا تصبّ في صالحها، بل تُعيد إنتاج المعادلة القديمة: حصار دائم، وتفاوض هش، وصفقات مرحلية لا تمسّ جوهر الاحتلال.

خاتمة: نار بلا دخان

ما يجري في غزة ليس هدوءًا، بل احتلال يمارس الإبادة بنسق منخفض الكثافة، في ظل عالم متواطئ، وأنظمة مرتبكة، وضمير دولي انتقائي.
وإذا لم تُفهم هذه المرحلة بوصفها "تجميدًا استراتيجيًا" مدروسًا، فسيتحول الصمت إلى اعتراف، والجمود إلى شرعنة، والمأساة إلى واقع دائم يُسوّق على أنه "استقرار".
لكن في غزة، لم تُعرف المقاومة يومًا بالسكوت على المعادلات المفروضة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.