النفط الروسي والغاز الإيراني: من يمسك بخنق أوروبا؟

في خضمّ حرب الطاقة العالمية التي اشتعلت مع غزو روسيا لأوكرانيا، تزايد الحديث عن "البدائل" و"الضمانات" و"أمن الإمدادات"، لكن خلف كل هذا الضجيج، يتكشّف سباق جيوسياسي خفي بين موسكو وطهران للهيمنة على شرايين الطاقة، لا باتجاه أوروبا فحسب، بل عبر إعادة رسم خريطة أنابيب الغاز والنفط في آسيا والشرق الأوسط.
فمن يحاصر من؟ ومن يفاوض من موقع القوّة؟ وهل باتت أوروبا رهينة لصراع جديد غير معلن بين الحليفين الروسي والإيراني؟

روسيا بعد أوكرانيا: من الغاز إلى السلاح

منذ بدء الحرب في أوكرانيا، استثمرت روسيا سلاح الغاز كورقة استراتيجية لعزل أوروبا عن نفسها، عبر قطع أو تقليص الإمدادات تدريجيًا، مما أدى إلى أزمة طاقة غير مسبوقة في شتاء 2022. ومع العقوبات الغربية المتزايدة، وجدت موسكو نفسها مضطرة لإعادة توجيه صادراتها شرقًا وجنوبًا، نحو الصين، والهند، وإيران.

لكن روسيا لم تخرج من أوروبا كليًا. بل اعتمدت على وسطاء، ونفذت تحويلات غاز غير مباشرة، مستفيدة من ثغرات في العقوبات، وفي الوقت ذاته بدأت منافسة إيران على أسواق جديدة عبر مشاريع أنابيب بديلة وخطط لمدّ النفوذ إلى تركيا كمعبر رئيسي للغاز الروسي.

إيران: الحصار يولّد البدائل

أما إيران، المحاصرة منذ سنوات، فقد اعتادت على العمل خارج النظام العالمي، وراكمت خبرة طويلة في الالتفاف على العقوبات، لكنها وجدت في تراجع روسيا المفاجئ عن بعض الأسواق الأوروبية والإقليمية فرصة استراتيجية لا تُعوّض.

فبدأت طهران توقّع اتفاقيات طاقة طويلة الأمد مع الصين، وتعرض شراكات على دول آسيا الوسطى والخليج، بل وتفاوض دولًا أوروبية (عبر قنوات خلفية) لتوفير إمدادات الغاز في حال تعثّر المسار الروسي.

والأهم: إيران تحاول تثبيت موقعها كمحور عبور للطاقة بين آسيا وأوروبا، في منافسة مباشرة مع روسيا وتركيا.

صراع أنابيب: من يربح طريق آسيا الوسطى؟

تكمن النقطة المفصلية في آسيا الوسطى: جمهوريات مثل تركمانستان وكازاخستان وأوزبكستان باتت حلبة صراع بين الروس والإيرانيين للسيطرة على اتجاه تدفّق الطاقة: هل تتجه أنابيب الغاز نحو روسيا، أم عبر إيران والخليج، أم مباشرة إلى الصين؟

هنا يتقاطع الغاز الإيراني مع المصالح الروسية، فـموسكو ترى في أي تمدد إيراني عبر هذه الجمهوريات تهديدًا مباشرًا لمجالها الحيوي، حتى وإن ادّعت العكس أمام الإعلام. ولهذا، بات التنسيق بين البلدين في مجال الطاقة أكثر هشاشة مما يبدو، رغم شعارات "التحالف ضد الغرب".

أوروبا بين فكي كماشة

في المحصلة، تجد أوروبا نفسها بين فكي كماشة:

  • روسيا التي كانت موردها الأساسي، ثم تحوّلت إلى خصم استراتيجي يبتزها بالطاقة،
  • وإيران التي لا تزال تحت العقوبات، لكنها تملك أحد أكبر احتياطيات الغاز، وتغري الدول الأوروبية بمصادر جديدة أكثر "استقرارًا" لو أُبرم الاتفاق النووي مجددًا.

المفارقة أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على ضبط هذه اللعبة بالكامل: تراجع نفوذها في آسيا الوسطى، وتصاعد العلاقات بين الصين وروسيا وإيران، يكشف أن الغرب خسر ورقة الضغط التي طالما استخدمها عبر احتكار مسارات الطاقة.

خريطة جديدة.. لكنها بلا سيطرة

السباق بين روسيا وإيران ليس سباقًا على من "يساعد أوروبا"، بل على من يتحكم برقبتها اقتصاديًا، ويملأ الفراغ الجيوسياسي في آسيا بعد انكفاء واشنطن.

لكن هذه المنافسة لا تعني حربًا باردة بين موسكو وطهران، بل تعاون متوتر، وتنازع غير معلن على النفوذ، تُحدده في النهاية قدرة كل طرف على ربط شبكات الطاقة بالمصالح الكبرى، خاصة مع تمدد الصين، واحتدام الصراع على الممرات اللوجستية.

خاتمة
بين خط الغاز العابر لإيران، وخط "تورك ستريم" الروسي، وبين احتياطيات بحر قزوين، وموانئ الخليج، ترسم معركة الطاقة اليوم حدود التحالفات الغد. وما تبدو شراكة روسية–إيرانية ضد الغرب، قد تنقلب قريبًا إلى صراع مكتوم، حين تحين لحظة الحسم: من يمسك بصمام الخنق الأوروبي؟ ومن يتحكّم فعليًا باتجاه تدفّق الثروة؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.