
أولًا: الجيش في مواجهة السياسيين
واحدة من أخطر التحولات كانت تلك الهوّة المتزايدة بين القيادة العسكرية والمؤسسة السياسية. فالجيش، الذي لطالما كان العمود الفقري لهيبة الدولة، وجد نفسه تحت وطأة قرارات سياسية متسرعة، وشكوك علنية بقدرته على الحسم. شهدنا ولأول مرة في العلن، نقدًا من ضباط كبار لتكتيكات الحكومة، وتحفظات على جدوى العملية العسكرية، واتهامات بأن القيادة السياسية تستخدم الجيش كأداة سياسية للنجاة الداخلي، لا لتحقيق أهداف استراتيجية واضحة.
ثانيًا: تفكك النسيج الداخلي
منذ تأسيسها، سعت إسرائيل إلى بناء هوية جامعة ليهود الشتات، لكن السنوات الأخيرة كشفت عمق الانقسامات الإثنية والدينية داخل المجتمع. تتصاعد الفجوة بين اليهود الشرقيين والغربيين، وبين العلمانيين والمتدينين، وتتصاعد معها النعرات القومية المتطرفة التي تُهدد بتفكيك مفهوم "الدولة اليهودية الديمقراطية". الحرب على غزة لم توحد الداخل كما في السابق، بل كشفت حجم الكراهية والاحتقان، حتى داخل المدن المختلطة. وهذا التفكك المجتمعي لم يعد مجرد أزمة اجتماعية، بل تهديد بنيوي لمفهوم الدولة نفسه.
ثالثًا: أزمة الشرعية الدولية
ربما للمرة الأولى، تجد إسرائيل نفسها في موقع الدفاع دوليًا أمام طوفان من النقد الشعبي والسياسي، خاصة في الغرب. ورغم استمرار الدعم العسكري من واشنطن، إلا أن الصورة الأخلاقية التي حاولت إسرائيل تسويقها كـ"دولة ديمقراطية في بحر من الاستبداد" بدأت تتهاوى. الجامعات الغربية، وقطاعات من الإعلام، وحتى بعض البرلمانات الأوروبية، باتت تتجرأ على طرح أسئلة محرّمة سابقًا: هل ما تزال إسرائيل تمثل القيم الغربية؟ وهل مشروعها الاستيطاني شرعي أصلًا؟
رابعًا: مشروع الدولة اليهودية في مأزق
المنظومة الصهيونية بنيت على فكرة "العودة إلى الوطن"، لكنها تواجه اليوم جيلًا شابًا من اليهود لا يؤمن بهذا الخطاب، ولا يرى في إسرائيل ملاذًا، بل عبئًا أخلاقيًا. ومع تراجع نسب التجنيد، وارتفاع الهجرة العكسية، تتآكل قدرة المشروع على تجديد شرعيته بين أجياله الجديدة. ومع تعاظم الاحتجاجات الداخلية، وتفكك الجبهة السياسية، يمكن القول إن إسرائيل تواجه أزمة وجود صامتة، لا تقتصر على الأمن أو السياسة، بل تمتد إلى جوهر فكرتها التأسيسية.
ختامًا: نحو تفكك هادئ؟
ليست نهاية إسرائيل وشيكة، لكنها لم تعد أيضًا تلك الدولة الصلبة التي تُصدّر خطابًا موحدًا وسياسات متماسكة. نحن أمام لحظة نادرة من الضعف البنيوي المقنّع بالقوة الظاهرة، لحظة قد تطول أو تُستثمر لتغيير المعادلات الإقليمية. وإذا كان الغرب ما يزال يراهن على إسرائيل كذراع استراتيجية، فإنه يدرك أن هذه الذراع باتت مهترئة من الداخل، تتآكل ببطء، وبصمت شديد.