فرنسا وأفريقيا: هل بدأت مرحلة ما بعد الفرانكفونية؟

في السنوات الأخيرة، بدا أن الرياح السياسية في منطقة الساحل الأفريقي لم تعد تهب بما تشتهيه باريس. واحدة تلو الأخرى، انهارت الأنظمة الحليفة لفرنسا، وصعدت نخب عسكرية ذات خطاب سيادي مناهض للتدخلات الغربية، واضعة حدًا لهيمنة دامت لعقود تحت عباءة "الفرانكفونية" وراية "الحرب على الإرهاب". لكن ما الذي يعنيه هذا التغير الجذري؟ وهل دخلنا فعلًا مرحلة ما بعد الفرانكفونية؟

من إرث استعمار إلى وصاية مغلّفة

الفرانكفونية لم تكن مجرد رابطة لغوية أو ثقافية، بل مشروعًا سياسيًا يكرّس النفوذ الفرنسي في مستعمراتها السابقة. منذ الاستقلال الشكلي لدول غرب أفريقيا، حافظت باريس على قبضة خفية عبر الاتفاقيات الأمنية، والعملات المرتبطة بالفرنك الفرنسي، والشركات العابرة للحدود، فضلًا عن النفوذ الإعلامي والنخب الموالية.

لكن هذه الوصاية لم تكن يومًا خالية من التوترات. فقد كانت السياسات الفرنسية تقوم على دعم أنظمة مستبدة مقابل ضمان الاستقرار الظاهري وتأمين المصالح الاقتصادية، خصوصًا في مجالات الطاقة والتعدين. ومع كل انقلاب أو احتجاج شعبي، كانت فرنسا حاضرة كفاعل وليس مجرد مراقب.

الانهيار المتسلسل: مالي، بوركينا فاسو، النيجر

بدأت ملامح التغيير العميق تتشكل مع انقلاب مالي عام 2021، تلاه انسحاب تدريجي للقوات الفرنسية تحت ضغط الشارع ورفض المجلس العسكري. تبعته بوركينا فاسو، ثم النيجر، في سلسلة تحولات وضعت حدًا لـ"حقبة بارخان" التي كانت عنوان التدخل الفرنسي في الساحل تحت شعار مكافحة الإرهاب.

هذه التحولات لم تكن فقط عسكرية، بل حمَلت معها رمزية كبرى: إنزال أعلام فرنسا، طرد سفرائها، وإغلاق القواعد العسكرية. الأهم من ذلك، هو صعود خطاب يحمّل الغرب مسؤولية التدهور الاقتصادي والأمني، ويطرح مشاريع بديلة ترتكز على السيادة الوطنية، والتعاون مع أطراف جديدة مثل روسيا وتركيا والصين.

أفريقيا تتغيّر.. وفرنسا تتراجع

التحولات في الساحل ليست مجرد تقلبات داخلية، بل تعبير عن ميل عام في أفريقيا يعيد رسم خريطة التحالفات. أنظمة عسكرية لا تخجل من انتقاد فرنسا، وشعوب ترفع أعلام روسيا وتحتفي بطرد "المستعمر الجديد"، وإعلام بديل يكسر احتكار السردية الغربية.

باريس التي اعتادت أن تكون اللاعب الأساسي، تجد نفسها اليوم في موقع الدفاع، تحاول إعادة تلميع صورتها عبر تصريحات ديبلوماسية ومبادرات ثقافية لا تجد صدى كبيرًا. واللافت أن الولايات المتحدة، التي لطالما كانت شريكًا غير ظاهر للنفوذ الفرنسي، بدأت هي الأخرى بإعادة تموضعها، وهو ما يزيد من عزلة باريس.

ما بعد الفرانكفونية: أزمة هوية أم فرصة تحرر؟

السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه الآن: هل ما يحدث هو نهاية لحقبة أم بداية لفوضى جديدة؟ الفرانكفونية، كما صُمّمت، كانت أداة لضبط النفوذ الفرنسي وربط مستعمراته السابقة بمنظومة واحدة. اليوم، تبدو هذه المنظومة متشققة، وربما بلا رجعة.

لكن هذا لا يعني بالضرورة صعود نموذج بديل ناضج. فالكثير من الأنظمة الصاعدة تحمل سمات استبدادية، وتسعى لاستبدال الوصاية الفرنسية بتحالفات جديدة قد لا تكون أكثر عدالة. ومع ذلك، يبقى التراجع الفرنسي فرصة نادرة للشعوب لبناء مشروع سيادي مستقل، شرط أن تُترجم السيادة العسكرية إلى مشروع اقتصادي وثقافي متكامل.

الخلاصة

فرنسا تخسر اليوم في أفريقيا ما راكمته منذ أكثر من نصف قرن من "النفوذ الناعم". والفرانكفونية لم تعد كلمة ساحرة في الخطاب السياسي، بل باتت تُنظر إليها كرمز للهيمنة والتنميط الثقافي. ما يجري في النيجر ومالي وبوركينا فاسو هو أكثر من مجرد انقلابات؛ إنه تحوّل استراتيجي يضع علامة استفهام كبرى على مستقبل النفوذ الغربي في القارة السمراء.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.