الممالك العربية القديمة: مملكة سبأ: التجارة والهيمنة في مهد اليمن

رغم أن اسمها ارتبط في أذهان كثيرين بزيارة ملكة سبأ للنبي سليمان، فإن مملكة سبأ ليست أسطورة توراتية، بل واحدة من أعرق الممالك العربية القديمة، نشأت في جنوب الجزيرة العربية، وشكّلت في أوجها قوة سياسية واقتصادية وثقافية تضاهي حضارات العالم القديم. لقد جمعت بين البراعة الهندسية، والمهارة في إدارة التجارة، والقدرة على فرض الهيمنة الإقليمية، في بيئة جغرافية صعبة لكنها حيوية.

موقعها الاستراتيجي على طريق البخور واللبان، وتحكّمها في بوابات التجارة البحرية والبرية بين الهند والبحر الأحمر، جعلها مقصدًا للقوى الكبرى، وهدفًا للتدخلات السياسية والدينية من الفرس والأحباش وغيرهم. وكانت سبأ في مراحل معينة المركز الأهم في جنوب الجزيرة، وبمثابة قلب نابض لحضارة عربية ناضجة قبل قرون من الإسلام.

النشأة والجذور

تأسست مملكة سبأ في الألفية الأولى قبل الميلاد، ويُقدّر أن نشأتها كانت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد تقريبًا. كانت عاصمتها مأرب، المدينة التي اشتهرت لاحقًا بسدّها العظيم، والذي شكّل معجزة هندسية ساعدت على ازدهار الزراعة وتنظيم الموارد.

نشأت سبأ من رحم التكتلات القبلية اليمنية القديمة، واستفادت من موقعها الجغرافي بين طرق التجارة الحيوية. ومع الوقت تطوّرت إلى كيان سياسي منظم له سلطة مركزية، ومؤسسات دينية وإدارية، ونظام متقدّم في تدوين النقوش بالقلم المسند الجنوبي.

مدة البقاء

دامت مملكة سبأ قرابة ألف عام، من القرن الثاني عشر قبل الميلاد حتى القرن الأول الميلادي تقريبًا. وقد شهدت فترات من الازدهار والانكماش، تخللتها صراعات داخلية وغزوات خارجية.

في نهاية المطاف، ضعفت المملكة تدريجيًا بفعل التنافس مع ممالك الجنوب الأخرى مثل حمير وقتبان، إلى أن تمكّنت حمير من السيطرة على مأرب، وضمّتها إلى مملكتها في القرن الأول الميلادي.

أبرز الأحداث

من أهم أحداث تاريخ سبأ بناء سد مأرب، الذي يُعد أحد أضخم مشاريع الريّ في تاريخ العرب قبل الإسلام، وكان سببًا في ازدهار الزراعة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.

كما ازدهرت التجارة بين سبأ والهند وبلاد الرافدين وشرق إفريقيا، وخصوصًا تجارة البخور والعطور. دخلت في تحالفات وصراعات متكررة مع ممالك جوارها مثل معين وقتبان، ووسّعت نفوذها شمالًا لفترات قصيرة.

كما ورد ذكر ملكة سبأ في النصوص الدينية، في قصة زيارتها للنبي سليمان، وهي رواية ذات بعد رمزي، تعكس القوة والمكانة السياسية للملكة، لكنها لا تختصر التاريخ الحقيقي للمملكة.

الدول المجاورة والعلاقات

كانت سبأ جزءًا من مشهد سياسي متشابك في جنوب الجزيرة، وتجاورت مع ممالك معين وقتبان وحضرموت. وكانت علاقاتها تتراوح بين التحالف والتنازع، بحسب تغير موازين القوى.

أما على المستوى الخارجي، فقد أقامت علاقات تجارية وسياسية مع الحبشة (أكسوم)، وهي علاقة شابها التنافس والصدام أحيانًا، كما وُجدت إشارات على تواصل مع الفرس، وكان للرومان واليونان اهتمام بطريق البخور الذي كانت سبأ تسيطر عليه.

ملامح النظام السياسي

حكمت سبأ بنظام ملكي، وكان الملك يُلقّب بالمكرب، أي الموحّد للقبائل، ثم تطوّر النظام إلى حكم مركزي أكثر. وُجد مجلس للشيوخ أو الكهنة في بعض الفترات، مع جهاز إداري متقدّم لتنظيم شؤون الزراعة والمياه.

أما من الناحية الدينية، فقد سادت الوثنية، وتم عبادة آلهة مثل "المقه" إله القمر، إلى جانب طقوس نذرية ونقوش توثق تفاصيل العقائد والمعاملات والطقوس بشكل مذهل.

نهاية المملكة

في القرن الأول الميلادي، تمكنت مملكة حمير من إخضاع سبأ وضمتها إلى كيانها الأكبر، ما أنهى الاستقلال السياسي لسبأ، وفتح الباب لمرحلة جديدة من التوحيد السياسي في جنوب الجزيرة. ومع انهيار سد مأرب لاحقًا، ووقوع الهجرات الجماعية، بدأت آثار المملكة تتلاشى تدريجيًا، حتى أصبحت جزءًا من تاريخ منسي.

خلاصة تحليلية

تكشف تجربة مملكة سبأ عن قدرة العرب قبل الإسلام على بناء كيان سياسي منظم، قائم على التجارة والريّ والإدارة. وهي شاهد على أن الجزيرة لم تكن صحراء بدائية، بل حاضنة لحضارات مزدهرة ذات نفوذ دولي. إن إعادة قراءة هذا التاريخ ليس استدعاءً للماضي بقدر ما هو كشفٌ للعمق الحضاري المطموس تحت رمال الإهمال.


وصف الصورة: خريطة قديمة لليمن الجنوبي محفورة على رق تاريخي، تتوسطها مأرب ويحيط بها رمز لسد مأرب، مع أطلال معابد سبئية وأعمدة حجرية متهالكة، وأرضية رملية ذهبية تلمع تحت شمس خافتة، بينما تتداخل ملامح الإله "المقه" في النقوش الجانبية.

سلسلة: الممالك العربية القديمة

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.