
لم نعد نتذوّق القهوة، بل نجرّب معنى الانتماء في كوب يحمل شعارًا.
لم تعد اللذة نتيجة الحواس، بل نتيجة الانتماء. صارت العلامة التجارية تزرع في وعينا نكهةً قبل أن نذوقها، وتُبرمج إحساسنا بما هو “لذيذ” أو “راقي” أو “حديث”. في عالم اليوم، لم يعد السؤال عمّا نأكله، بل عمّا نمثّله ونحن نأكل. فالطعام لم يعد غذاءً للجسد بقدر ما أصبح غذاءً للصورة التي نريدها لأنفسنا.
الطعم كهوية: حين يتحوّل الذوق إلى بطاقة تعريف
في الماضي، كان الذوق تجربة شخصية تُعرّف الإنسان من داخله؛ اليوم صار الذوق بطاقة تعريف تُعرّفه من الخارج.
نحن لا نحب نكهة معينة لأنها تثير حواسنا، بل لأنها تترجم ما نريد أن نكونه أمام الآخرين. أصبحت النكهات علامات هوية، كما الأزياء والسيارات، تعكس طبقةً أو ذوقًا أو انتماءً ثقافيًا.
حين يشرب أحدهم “قهوة إيطالية فاخرة”، فهو لا يصف المذاق بل يصف ذاته: “أنا ممن يقدّر الذوق الرفيع”. وحين تختار امرأة “علامة تجارية محددة من الشوكولاتة”، فربما لا تختار الطعم بل الصورة التي تحملها عنها تلك العلامة في الإعلانات — الأناقة، الرقة، التميّز.
لقد تحوّل الذوق إلى لغة رمزية، لا وسيلة تذوق.
تسليع الإحساس: حين تُباع النكهة بوصفها تجربة
ما يُباع اليوم في المقاهي والمطاعم ليس القهوة ولا الطعام، بل “التجربة”.
الإحساس نفسه أصبح سلعة تُعبَّأ وتُسعَّر.
رائحة المكان، الإضاءة، الموسيقى، لون الكوب، مقاعد الزبائن — كلها عناصر تصنع طعمًا لا علاقة له بالمذاق الحقيقي. إنها “نكهة المشهد”.
لقد أدركت الشركات الكبرى أن الحواس يمكن إدارتها كما تُدار الإعلانات. أن المشهد الجميل يصنع إحساسًا باللذة حتى قبل أن تمسّ الشفاه الفنجان. ولهذا صار الذوق يُهندَس معماريًا ونفسيًا، كأن الحواس نفسها دخلت السوق بوصفها رأسمالًا عاطفيًا.
اللذة أصبحت جزءًا من الديكور العام للعالم الاستهلاكي، لا من الجسد البشري.
العلامة التجارية بوصفها نكهة: كيف نأكل الشعار لا المنتج
القضية العميقة في ثقافة الاستهلاك ليست ما نأكل، بل من الذي يُعرّف ما نأكله.
الشركات لم تعد تبيع المنتجات، بل تصنع معنى اللذة نفسه.
العلامة التجارية لم تعد اسمًا على العلبة، بل أصبحت “النكهة” ذاتها في وعينا.
جرّب أن تُغمض عينيك وتشرب قهوة من كوب بلا شعار: ستفقد نصف المتعة، لا لأن الطعم تغيّر، بل لأنك فقدت الرمز الذي يمنحك الطعم معنًى.
الشعار صار امتدادًا للحاسة.
إننا نأكل الصورة التي خُلقت في وعينا أكثر مما نأكل المادة أمامنا.
القهوة، الماء، الشوكولاتة، وحتى الهواء المعطّر… كلها تتوحّد في تجربة واحدة: نحن لا نستهلك المنتج، بل نستهلك رمزه.
الفرق بين ماء فخم وآخر عادي ليس في النقاء، بل في “اسم الشركة الذي يوحي بالطهر”. الفرق في الذهن لا في الحلق.
اقتصاد الرمز: السوق التي تبيع المعنى
في السوق الحديثة، المعنى هو السلعة الأغلى.
العلامة التجارية أصبحت نوعًا من الدين المدني: تمنح الشعور بالانتماء، وتُحدّد الطيب من الرديء، كما كانت تفعل الرموز الدينية والثقافية قديمًا.
المستهلك يدفع ثمن الراحة النفسية التي تمنحها له العلامة، لا ثمن المنتج ذاته.
لقد صار الاقتصاد الحديث اقتصادًا رمزيًا، حيث تتحول “الثقة” إلى رأس مال، و“الخيال الجمعي” إلى سلعة.
الإعلانات لا تبيع طعمًا، بل تخلق توقًا.
تقول لك: “ستصبح أفضل، أكثر حداثة، أكثر وعيًا” إذا اشتريت هذا المنتج.
وهكذا يُعاد تعريف الذوق بوصفه إيمانًا لا تجربة.
العلامة التجارية لا تكتفي أن تكون منتجًا موثوقًا؛ إنها تطمح أن تكون أسلوب حياة، أو بمعنى أدق: نكهة وجودية.
التحوّل الثقافي: من اللذة الفردية إلى الاستهلاك الجماعي
ما يحدث في خلفية هذا المشهد هو فقدان الإنسان لحريته الحسية.
لقد تم استلاب الذوق الفردي وإعادة توجيهه وفق خريطة السوق العالمية.
لم يعد أحد يتذوّق كما يشاء، بل كما يُتوقّع منه أن يتذوّق.
وهكذا تتوحّد النكهات كما توحّدت العلامات، وتذوب الفوارق الثقافية داخل نكهة عالمية مكرّرة.
القهوة التي تُقدّم في نيويورك هي ذاتها في دبي وطوكيو؛ الوجبة ذاتها، الرائحة ذاتها، الديكور ذاته.
إنه توحيد عالمي للحواس باسم “التجربة الموحّدة”.
لقد نجحت الرأسمالية في أن تصنع للذوق ما صنعته سابقًا للزمن: جعلته عالميًا، سريعًا، مفرغًا من المعنى الشخصي.
الخاتمة: الحواس التي تم احتلالها
لقد أصبحت العلامة التجارية حاسة سادسة تتوسّط علاقتنا بالعالم.
لم نعد نذوق الأشياء كما هي، بل كما صيغت لنا في حملات التسويق والإعلانات.
إنها مرحلة جديدة من السيطرة الناعمة، حيث لا يُؤمَر الإنسان بما يفعل، بل يُقاد إلى ما “يرغب” فيه.
قد نحتاج يومًا إلى حاسة جديدة تفرّق بين الحقيقي والمصنوع، بين الذوق الذي نشأ في اللسان، وذلك الذي نشأ في الشاشة.
فهل ما زلنا نملك شجاعة أن نحب ما لا يحمل شعارًا؟