
أولًا: خوارزميات تصنع التفاهة... عمدًا
ليست التفاهة ظاهرة عرضية. إنها نتيجة مباشرة لتصميم الخوارزميات التي تحكم المنصات الكبرى: تيك توك، يوتيوب، إنستغرام، فيسبوك. هذه الأنظمة لا تبحث عن القيم أو العمق أو الوعي، بل عن الربح. ومقياس الربح هنا هو "معدّل التفاعل".
أي محتوى يثير استجابة عاطفية فورية (ضحك، صدمة، جدل)، يتم ترشيحه تلقائيًا للظهور لعدد أكبر من الناس، لأنه ببساطة: يُدرُّ أرباحًا إعلانية.
والنتيجة؟
تصعيد ممنهج لمحتوى سريع، هزلي، مفرغ، على حساب أي مادة فكرية أو تحليلية.
أنتجنا فضاءً رقميًا يكرّس قانونًا جديدًا: كلما قلّ عمقك، زادت فرصتك في الانتشار.
ثانيًا: من يمول "الترند"؟ ولمصلحة من؟
منشئو المحتوى السطحي لا يصعدون وحدهم. كثير منهم تدعمهم شبكات إنتاج، وممولون، و"وكالات إدارة محتوى" تعمل خلف الكواليس. التمويل هنا لا يأتي فقط من المعلنين العاديين، بل أحيانًا من جهات أعمق: شركات، منصات، أو حتى أطراف مرتبطة بمشاريع سياسية.
ما الهدف؟
- صرف الانتباه الجماعي عن القضايا المفصلية: الفقر، القمع، الفساد، الاحتلال، الاستبداد.
- إنتاج إنسان لا مبالٍ: مدمن على الترفيه، يضحك بينما تحترق قضاياه.
- تفكيك الحصانة النفسية للأجيال: عبر تسطيح المفاهيم وتطبيع التفاهة، تصبح الرداءة "عادية"، بل "محبوبة".
تمامًا كما استخدمت الإمبراطوريات القديمة "الخبز والسيرك" لإلهاء الشعوب، تستخدم المنصات الرقمية اليوم محتوى التفاهة لتفكيك الوعي، بطرق أكثر تطورًا، وأشد تأثيرًا.
ثالثًا: التفاهة كأداة هندسة اجتماعية
المحتوى التافه ليس مجرد "تسلية عابرة"، بل أداة هندسة اجتماعية.
عندما يُدْفَع جيلٌ بأكمله إلى متابعة ترندات جوفاء، وتحويل مشاهير العبث إلى قدوات، فإن هناك هدفًا أعمق من الضحك:
- إعادة تشكيل القيم: من قيمة المعرفة والنضال إلى قيمة الاستعراض والربح السريع.
- تفكيك الهوية الثقافية: عبر تعميم ثقافة هجينة لا تنتمي لمجتمع ولا وطن ولا تاريخ.
- نزع السلاح المعنوي من الأفراد: كلما ضحكت أكثر، فَكّرت أقل.
في هذا السياق، يصبح الإنسان المستهلِك للتفاهة كائنًا مثاليًا للأنظمة النيوليبرالية والسياسات التسلطية: لا يطالب، لا يفكر، لا يحتج، فقط يستهلك ويُشاهد.
ختامًا: تفاهة مُمَوّلة، لا عفوية
علينا أن نكفّ عن التعامل مع المحتوى السطحي بوصفه "نتاجًا عفويًا للناس".
هو في جوهره نتيجة هندسة إعلامية – اقتصادية – سياسية تُصنَع وتُسوَّق وتُموَّل، ليس من أجل الضحك، بل من أجل تحييد الوعي.
إذا كان العمق مكلفًا، فالتفاهة مربحة. وإذا كان الوعي خطرًا، فالسطحية أداة ضبط فعّالة.
ولذلك، فإن مواجهة التفاهة لا تكون بالسخرية منها فقط، بل بفضح البنية التي تدعمها، وتحليل أهدافها، وتفكيك شبكات تمويلها... لأن المعركة اليوم ليست فقط على ما نشاهد، بل على كيف نفكر، وماذا نَعتبر مهمًّا، ومَن نختار أن نكون.