صُنّاع التفاهة: كيف صعدوا؟ ولماذا نمنحهم الضوء؟

في زمنٍ صار فيه الضجيج أعلى من الفكر، والتفاهة أسرع وصولًا من المعنى، ظهر ما يُسمّون بـ"المؤثرين" كظاهرة جماعية تُعيد تشكيل الذوق العام، وتعيد تعريف النجاح والتأثير بصورة مقلوبة. لكن الحقيقة التي تُغفل عمدًا أن كثيرًا من هؤلاء ليسوا سوى صُنّاع تفاهة، وليسوا صُنّاع وعي ولا قدوة يُحتذى بها. فكيف صعدوا؟ ولماذا نمنحهم الضوء؟ ومن المسؤول عن هذه المسخرة الجماعية؟

خوارزميات تدير الذوق

المنصات الرقمية لا تهتم بالمعنى، بل تُكافئ ما يجلب المشاهدات ويُطيل زمن التفاعل. وهذا يعني شيئًا واحدًا: الخوارزمية تمنح التفاهة مكافأة مضاعفة لأنها مثيرة، سهلة، وتخاطب الغرائز السريعة. حين يسخر شاب من فقير، أو تأكل فتاة بشكل غريب، أو يصرخ مراهق دون معنى—فهذا مثالي من وجهة نظر الآلة: مشاهدات، تعليقات، وربح إعلاني.

وهكذا، لا يحتاج صانع التفاهة إلى موهبة، ولا إلى فكر، فقط إلى "شيء يلفت الانتباه"، ولو كان قبيحًا أو مهينًا.

التسمية المضلِّلة: حين نُضفي شرعية على الانحدار

إن تسمية هؤلاء بـ"المؤثرين" ليست مجرد خطأ لغوي، بل تضليل ثقافي خطير. فالتأثير، في أصله، مرتبط بفعل إيجابي: أن تؤثر وعيًا، سلوكًا، أو قيمة. أما أن يُطلق اللقب نفسه على من يسوّق التفاهة أو يُنتج السلوك الرديء، فهو تجميل للانحدار وإعطاء حجم لمن لا يستحق.

وحين تُكرَّر هذه التسمية في الإعلام، في التعليم، وفي حديث الناس، فإنها تُرسّخ في وعي الأجيال أن الشهرة تُساوي القيمة، وأن كل من يملك جمهورًا فهو حتمًا "ناجح" و"مهم" — وهذا بالضبط ما يُحوّل التفاهة إلى نموذج يُحتذى، لا إلى حالة يُنتقد.

إعلام يُجمّل القبح

بدلًا من أن يلعب الإعلام دور الرقيب الثقافي، أصبح شريكًا في تسويق السطحية. نراه يصف هؤلاء بـ"المؤثرين"، و"نجوم الجيل"، دون أن يسأل: ما الذي يؤثرون به؟
هذه المصطلحات تمنحهم شرعية وهمية وتضفي على أفعالهم هالة من الأهمية، رغم أن ما يقدمونه في جوهره لا يتجاوز ترفيهًا رخيصًا أو استعراضًا مبتذلًا، وأحيانًا سلوكًا مسيئًا كما في حالة رمي بقايا الطعام على المشردين.

من المسؤول؟ المجتمع الصامت

صعود هؤلاء لم يكن ليحدث لولا وجود جمهور يمنحهم "المشاهدة المجانية". فالتفاهة لا تصعد إلا على أكتاف متفرجين قرروا أن يتسلوا بصمت، دون أن يدركوا أنهم يساهمون في تضخيم هذا الانحدار.

نحن أمام حلقة مفرغة:

  • الجمهور يستهلك.
  • المنصة تكافئ.
  • "المؤثر" يزداد شهرة.
  • الإعلام يُهلّل.
  • الجيل القادم يقلّد.

ما العمل؟ إعادة الاعتبار للتأثير الحقيقي

  • لا تُتابع من لا يحترم وعيك.
  • لا تصف صانع التفاهة بأنه مؤثر، حتى لو امتلك الملايين.
  • سلّط الضوء على من يصنع فكرًا، أو يُقدّم قيمة، أو يزرع وعيًا.
  • وذكّر نفسك دائمًا أن الضجيج لا يصنع عمقًا، وأن الضحك السهل غالبًا يخفي انحدارًا عميقًا.

الخاتمة:

إن أخطر ما في صُنّاع التفاهة ليس ما يفعلونه، بل ما نسكته نحن عنه. التواطؤ بالصمت، أو بالتفاعل الفضولي، هو ما يمنحهم مساحتهم. وإذا لم نكسر هذه الحلقة، سيكبر جيش التفاهة، وسيصير "الفراغ" هو الشكل الجديد للنجاح، بينما يختفي العقل في الظل.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.