
يبدو المشهد عفويًا، لكنه في عمقه إعلان عن تحوّل في طبيعة الوجود الإنساني ذاته: من التفاعل الاجتماعي الواقعي إلى الأداء الرقمي المعزول. لم يعد الهدف أن تُرى في المكان، بل أن تُسجَّل في الذاكرة الإلكترونية للعالم.
1. الرقص كإعلان للوجود
الرقص في الفضاء العام لم يعد مجرد حركة فنية أو ترفيه لحظي، بل أصبح بيانًا وجوديًا.
الفرد يرقص ليؤكد أنه “موجود”، في زمنٍ بات فيه الظهور شرطًا للبقاء الرمزي.
لم يعد المهم من يشاهده في لحظة الأداء، بل من سيُشاهد الفيديو لاحقًا.
إنها محاولة للخلود اللحظي في عالمٍ سريع الزوال؛ فكل مقطع منشور هو وعدٌ بالبقاء، ولو لبضع ثوانٍ، في ذاكرة الخوارزميات.
2. سقوط سلطة النظرة
في الماضي، كانت “نظرة الآخرين” هي ما يضبط السلوك ويمنح الوعي الذاتي معناها.
أما اليوم، فقد انهارت هذه السلطة. من يرقص في الشارع لا يعبأ بالمارة، لأن المارة الحقيقيين أصبحوا في الشبكة.
الجمهور الواقعي فقد تأثيره، والجمهور الرقمي هو من يملك الحكم النهائي: الإعجاب، المشاركة، أو التمرير البارد.
لقد انتقل مركز الثقل من الفضاء الاجتماعي إلى الفضاء الافتراضي، ومن “العيون الحقيقية” إلى “الكاميرا الذكية”.
3. المدينة كمسرح رقمي
لم تعد المدينة مكانًا للعيش، بل خلفية للظهور.
الأرصفة والساحات والشواطئ تحولت إلى استوديوهات مفتوحة لأداء الجسد أمام عدسة الهاتف.
الشارع لم يعد يُنتج ذاكرة مشتركة، بل صورًا متفرقة يستهلكها العالم دون أن يعرف أين صُوّرت.
بهذا المعنى، تحوّل الفضاء العام إلى مسرحٍ بلا جمهور، وجمهورٍ بلا حضور.
الجسد يؤدي دوره أمام مدينةٍ صامتة، بينما المشاهد الحقيقي يجلس في مكانٍ آخر تمامًا، ربما في قارة أخرى.
4. من الفن إلى المحتوى
الرقص هنا ليس فناً ولا تعبيرًا عن روحٍ إنسانية، بل تحوّل إلى محتوى.
الحركة الجميلة، الضوء الجيد، الموسيقى السريعة — كلها عناصر لا تُوظّف لإيصال معنى، بل لإنتاج تفاعل.
لقد أصبح الجسد نفسه “وسيلة ترويج”، لا لقضية أو إحساس، بل للذات بوصفها منتجاً قابلاً للاستهلاك.
إننا أمام عصر تسليع التعبير الجسدي، حيث تُقاس القيمة بمدى الانتشار لا بعمق التجربة.
5. اللامبالاة كوجه جديد للحرية
اللامبالاة بالمارة ليست انقطاعًا عن الواقع فقط، بل إعلان عن حرية جديدة: حرية عدم الاعتراف بالآخرين كمصدر للتقييم.
لكنها حرية شكلية، لأن الراقص لم يتحرر فعلاً، بل انتقل من رقابة المجتمع إلى رقابة الخوارزمية.
لقد تبدلت السلاسل، لا جوهر القيد.
الإنسان الحديث لم يتحرر من الحاجة إلى الاعتراف، بل غيّر وجهة النظر التي تمنحه هذا الاعتراف: من البشر إلى الشاشة.
6. اغتراب الجسد في زمن الخوارزميات
هذا المشهد الراقص يخفي في جوهره اغترابًا عميقًا.
الجسد الذي يتحرك أمام الكاميرا ليس جسدًا حقيقيًا يعيش لحظته، بل جسدًا “مُعدًّا للعرض”.
إنه يعيش من أجل الصورة، لا من أجل الإحساس.
بهذا المعنى، صار الإنسان غريبًا عن جسده، كما صار الجسد غريبًا عن معناه.
إنه يؤدي حياة مصمَّمة مسبقًا، تُكرّر نفسها عبر ملايين المقاطع المتشابهة في كل اللغات والثقافات.
7. من التعبير إلى المحاكاة
الرقص الجماعي الذي ينتشر عالميًا بنمط واحد من الحركات والموسيقى لا يُعبّر عن ثقافاتٍ متعددة، بل عن ثقافة واحدة معولمة.
إنها ليست حرية تنوّع، بل حرية التشابه؛ الكل يفعل الشيء نفسه ليحظى بالظهور نفسه.
تختفي الخصوصية، ويذوب الاختلاف، ويصبح الجسد أداة لترديد ما تقترحه المنصات.
بهذا، يُمحى المعنى الحقيقي للفن كفعل فردي حر، ويتحول إلى إعادة إنتاج لا نهائية للمألوف.
8. الإنسان الرقمي وفقدان المعنى
في النهاية، نحن أمام جسدٍ يرقص ليُقنع نفسه بأنه حيّ، في عالمٍ باتت فيه الحياة تُقاس بالضوء وعدد المتابعين.
إنه تعبير عن الوحدة الراقصة — عزلة ملوّنة بالموسيقى، يخفي تحتها خوفًا من الاختفاء.
فالإنسان الرقمي لا يبحث عن الفرح، بل عن الدليل على أنه ما زال موجودًا في تدفق لا يتوقف من الصور.
إنه يرقص لا لأنه سعيد، بل لأنه لا يحتمل فكرة أن يكون غير مرئي.
خاتمة
الرقص في الشوارع لم يعد فعل حرية كما يبدو، بل مرآة زمنٍ فقد فيه الإنسان اتصاله بالحياة الواقعية.
حين يرقص الجسد في غياب المتفرج، يكون العالم قد دخل مرحلة جديدة من الوجود:
وجودٌ لا يُقاس بالحضور، بل بالانتشار.
إنه زمنٌ تُختزل فيه الروح إلى “حركة”، والحياة إلى “مقطع”، والمعنى إلى “مشاهدة”.
هكذا يصبح الرقص في الشارع — رغم جماله الظاهري — رمزًا مؤلمًا لعصرٍ يحتفل بالحركة كي لا يواجه سكونه الداخلي.