هندسة الذوق: الذوق كصناعة ثقافية: حين نأكل الفكرة لا الطعام

 «ليست اللذة فيما نأكل، بل فيما نُقنع أنفسنا بأنه يستحق أن يُؤكل.»

ليس الذوق في جوهره إحساسًا فطريًا بسيطًا، بل هو نظام من الرموز التي تُنشئها الثقافة وتعيد من خلالها تعريف اللذة والألفة والاشمئزاز. فحين نقول إن طعامًا ما "لذيذ" أو "منفّر"، فنحن لا نصف خصائصه الكيميائية بقدر ما نصف الطريقة التي علّمَتنا بها بيئتنا أن نتلقّاه. إنّ ما نظنه ذوقًا حسيًا هو في حقيقته ذاكرة اجتماعية متراكمة؛ نحن لا نتذوق بألسنتنا، بل بتاريخنا الجمعي وبالصور التي غرستها فينا السلطة الثقافية والإعلانية لما يجب أن يكون «طيبًا».

الطعم بين الحواس والمعنى

الطعم ليس خاصية في الشيء، بل هو علاقة بين الحواس والعقل والرمز. فحاسة التذوّق تُدرك المرّ والحلو والمالح، لكنها لا تملك أن تقول أيها "لذيذ"، لأن هذا الحكم لا يصدر عن اللسان، بل عن الوعي المشكَّل اجتماعيًا.
حين يتذوق الإنسان قهوة إثيوبية حامضة فيراها فاخرة، بينما ينفر آخر منها لأنها "ليست مثل القهوة التي يعرفها"، فالمسألة لا تتعلق بالحبوب بل بالرمز الذي رُسم في ذهنه للقهوة: ثقيلة، داكنة، مُرّة. وهكذا، يصبح الذوق شبكة من المعاني الموروثة التي تنسب للطعام قيمة ليست فيه، بل في وعينا به.

الذوق بوصفه ذاكرة اجتماعية

لكل مجتمع "لسان ثقافي" يحدد ما يُعدّ طيبًا أو مستقذرًا. ففي مجتمعاتٍ تتذوق الأسماك النيئة، لا يُنظر إلى ذلك كغريب أو صعب البلع، بل كجزء من هوية قومية تمتد إلى المطبخ والذاكرة. والإنسان منذ طفولته يُدرَّب على قبول ما ترفضه غريزته الأولى، حتى يصبح ما كان "مقزّزًا" جزءًا من المألوف، وربما من الفخر الوطني.
هذه الذاكرة الجماعية هي ما يجعل الذوق أداة للانتماء أكثر منه للمتعة. فمن خلال ما نأكله نعلن هويتنا ونستعيد ارتباطنا بالجماعة. إن الطعام هنا ليس طاقة للجسد، بل لغة رمزية للتواصل الاجتماعي، ولذلك فرفض طعامٍ ما قد يُقرأ كرفضٍ للثقافة نفسها.

من التعود إلى الإيمان: كيف تُهندَس اللذة؟

حين يعتاد الإنسان على طعام ما، يبدأ وعيه بتبرير ذلك التعود ليحوله إلى إيمان جمالي. هذه الآلية النفسية هي ما تجعل الذوق يتحول من عادة إلى قناعة. ومع الزمن، يتحوّل الاعتياد إلى حكم قيمي: يصبح ما نألفه "صحيحًا"، وما لا نعرفه "خطأً".
ولأن الإنسان يميل إلى الاتساق الداخلي، فإنه يقنع نفسه بأن ما تعود عليه هو الألذ، لا لأنه الأفضل، بل لأنه الأضمن لاستقراره النفسي. ومن هنا تنشأ الذائقة المغلقة التي ترفض الغريب لا لعيبه، بل لغرابته. إننا لا نحكم على الطعم بقدر ما نحكم على أنفسنا من خلاله.

التسويق كسلطة ذوقية جديدة

لم يعد الذوق نتاج الثقافة المحلية وحدها، بل أصبح صناعة تُدار في مختبرات التسويق الكبرى. فالشركات لا تبيع منتجًا فحسب، بل تخلق له لسانًا ذوقيًا عالميًا؛ تُعيد تعريف اللذة بما يخدمها.
تُروّج الحملات الدعائية صورةً معينة لما يُفترض أن يكون "لذيذًا"، وتربطها بالنجاح، والجمال، والحياة السعيدة. يصبح الطعم رمزًا اجتماعيًا لا حسيًا: القهوة الفاخرة ليست أكثر جودة بالضرورة، لكنها تمنحك شعور الانتماء إلى طبقةٍ "تعرف ما تختار".
وهكذا يتحول الذوق من تجربة شخصية إلى سلطة رمزية تفرضها السوق؛ نأكل لأن الآخرين يأكلون، ونشرب لأن الصورة تقول إن ذلك جميل.

حين يأكل الإنسان رمزه لا طعامه

في هذا السياق، يصبح الإنسان الحديث كائنًا استهلاكيًا يتذوق العلامة التجارية أكثر من المذاق نفسه. فالقيمة لم تعد في المكونات، بل في السرد الذي يرافقها: منشأ القهوة، تصميم العلبة، قصة المزرعة، ونمط الحياة الذي تُوحي به.
إننا نأكل «الهوية» التي تُباع مع الطعام أكثر مما نأكل الطعام ذاته. وبذلك يُختزل الطعم إلى فكرة مُعلّبة توزَّع عبر الإعلانات والمنصات الرقمية حتى تترسخ في الذوق الجمعي. وهكذا يُستبدل فعل التذوق الطبيعي بفعلٍ رمزي: لا نأكل لنشبع، بل لننتمي، ولنثبت لأنفسنا أننا نعرف "اللذيذ الصحيح".

خاتمة: الحواس التي أعيد تشكيلها

في النهاية، يمكن القول إن الذوق لم يعد حاسةً بريئة بل أداة من أدوات الهندسة الثقافية. فبينما نتصور أننا نختار طعامنا وفق رغبتنا، تكون رغبتنا نفسها قد صيغت مسبقًا بلغة السوق وذاكرة الجماعة.
لقد انتقل الإنسان من التذوق بوصفه فعلًا غريزيًا إلى التذوق بوصفه خطابًا اجتماعيًا يعبّر عن الهوية والطبقة والانتماء.
ولعل أعظم ما يهدد حريتنا اليوم ليس ما يُفرض علينا من الخارج، بل ما نتقبله طوعًا من أذواقٍ مصنّعة تُقنعنا بأننا اخترناها بأنفسنا. فبين اللسان والعقل مسافةٌ تسكنها الدعاية، وهناك بالضبط يُعاد تعريف اللذة كل يوم.

سلسلة: هندسة الذوق: الحواس في زمن السوق

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.