القراصنة الصوماليون في البحر الأحمر وخليج عدن: ليست مجرد حكاية قرصنة

وسط مياهٍ تعجّ بالبوارج الدولية، وواجهات إعلامية تُصدر عناوين عن “الإرهاب البحري”، وُلدت ظاهرة قراصنة الصومال كتجسيد حيّ لانهيار الدولة وسرقة الموارد. لم تكن القصة مجرد عصابات خارجة عن القانون، بل انعكاسًا لفوضى جيواقتصادية مُركّبة، حيث تقاطعت المصالح الأجنبية مع الجوع المحلي. قوارب الصيد المسلّحة لم تُهدد الأمن العالمي كما زُعم، بقدر ما كشفت هشاشة النظام العالمي الذي ترك الصومال يتفتت عقودًا. فما الذي جعل هؤلاء القراصنة أبطالًا في عيون البعض، وتهديدًا في أعين آخرين؟ وكيف تحوّلت قراصنة السواحل من صراع بقاء إلى قضية تُروّج كذريعة للتدخلات؟


بداية القصة: انهيار الدولة وغياب الحماية  


بعد سقوط نظام سياد بري في 1991، دخلت الصومال في دوامة من الحروب الأهلية، وتفككت مؤسسات الدولة، بما في ذلك البحرية الوطنية التي كانت تحمي السواحل الصومالية. هذا الفراغ السيادي جعل المياه الإقليمية عرضة للاستباحة الدولية، خصوصًا من قبل سفن الصيد التجارية الغربية والآسيوية.

خلال سنوات التسعينيات وبداية الألفية، بدأت شركات دولية من أوروبا وآسيا باقتحام المياه الصومالية بشكل غير قانوني، مستغلة غياب الرقابة. تم نهب الثروة السمكية، وهي مصدر رزق رئيسي للصوماليين، كما تسرّبت تقارير عن قيام بعض السفن الأجنبية برمي نفايات سامة في تلك المياه، مما سبّب أمراضًا للسكان المحليين.


من صيادين إلى "قراصنة": الدفاع الذي تحوّل إلى هجوم

رد الفعل الأولي من بعض الصيادين المحليين لم يكن سرقة السفن بل محاولة صد السفن المتطفلة. تشكلت مجموعات أطلقت على نفسها ألقابًا مثل "حماة البحر"، وكانت تطلب من السفن الأجنبية رسومًا أو تعويضات. ومع مرور الوقت، وغياب الدولة، وتطوّر السوق السوداء، تحوّلت هذه المجموعات إلى ميليشيات بحرية مسلحة تمارس الخطف للحصول على فدى.

إذن، بدايات القرصنة لم تكن رغبة في الإجرام، بل صرخة يأس من شعب محاصر، لم يجد من يدافع عن ثروته البحرية ولا عن سيادته.


لماذا أصبحت القضية دولية؟

تحوّلت القرصنة الصومالية إلى قضية دولية لعدة أسباب:

  1. الموقع الجيوسياسي الحساس: مضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي هو ممر حيوي لـ10% من التجارة العالمية، خاصة ناقلات النفط القادمة من الخليج إلى أوروبا.

  2. استهداف السفن التجارية الدولية: مع توسّع نشاط القراصنة، بدأت الهجمات تطال سفنًا من دول كبرى مثل أمريكا، فرنسا، اليابان، وروسيا.

  3. فدى بملايين الدولارات: عمليات الاختطاف أصبحت تدرّ أرباحًا ضخمة، مما شجّع مجموعات أخرى على الانخراط في هذه "الصناعة"، وخلق اقتصاد موازٍ معقد يمتد إلى بنوك وتمويلات وشبكات دولية.

  4. التغطية الإعلامية المكثفة: عمليات اختطاف مثل سفينة "مايرسك ألاباما" الأمريكية جعلت القضية تتصدّر الأخبار، ما دفع الدول الغربية لاتخاذ إجراءات عسكرية وسياسية.


ردود الفعل الدولية: عسكرة البحر

ردّت القوى الدولية بنشر أساطيل بحرية متعددة الجنسيات في المنطقة تحت مسميات مختلفة مثل عملية أتالانتا الأوروبية، وقوة المهام المشتركة 151 بقيادة أمريكية. رافق ذلك:

  • تسليح السفن التجارية.
  • السماح لبعض الشركات باستئجار حراس أمن مسلحين على متن السفن.
  • إنشاء محاكم خاصة في كينيا وسيشل لمحاكمة القراصنة المقبوض عليهم.

تراجع الظاهرة: كيف انتهت (نسبياً) القضية؟

منذ عام 2012 بدأت ظاهرة القرصنة الصومالية تتراجع بشدة، للأسباب التالية:

  1. وجود بحري دولي مكثف ردع القراصنة ومنعهم من الاقتراب من السفن.
  2. تحصين السفن تقنيًا وبشريًا، وتغيير مسارات بعض الرحلات البحرية.
  3. تحسّن نسبي في الوضع السياسي ببعض مناطق الصومال (مثل بونتلاند).
  4. القبض على بعض القيادات وتفكيك شبكات التهريب.

لكن اللافت أن جذور المشكلة لم تُحل: لا تزال المياه الصومالية مهددة بالصيد غير المشروع، والفقر منتشر، والدولة المركزية ضعيفة. ما انتهى هو الظاهرة الظاهرة إعلاميًا، لا الأسباب البنيوية التي ولّدتها.


الخلاصة: قرصنة أم مقاومة؟

إذا نظرنا بعمق، نجد أن ما سمّي "قرصنة" هو في جوهره انعكاس لنهب دولي لموارد دولة منهارة. الغزو البحري بصناديق النفايات وسفن الصيد الصناعية لم يُوصف بالإجرام، بينما سُمّي رد فعل الضحايا قرصنة.

القضية تفضح ازدواجية المعايير الدولية: حين تموت الشعوب جوعًا بسبب سرقة ثرواتها، يُطلب منها الصمت... أما حين تتأثر الملاحة الدولية، يُعلَن الاستنفار العالمي.

أحدث أقدم
🏠