
أزمة المقاتل الإسرائيلي: امتناع، مرتزقة، وانكشاف استراتيجي
في ظل الحرب الممتدة على غزة، ظهرت ملامح أزمة عميقة في البنية القتالية الإسرائيلية، تمثلت في امتناع عدد متزايد من الجنود عن المشاركة في المعارك، وتراجع جدوى الاعتماد على المقاتلين المرتزقة، الذين يكثر ظهورهم في مهام قمع المدنيين العزّل، لكنهم يغيبون عن ميادين الاشتباك الحقيقي. هذه الظاهرة لا يمكن قراءتها بمعزل عن التصدعات الأعمق في المشروع الصهيوني ومحدودية استمراريته على المدى الطويل، وتكشف عن أزمة مركبة: نفسية، عسكرية، واستراتيجية.
أزمة المعنويات والشرعية
تزايد الامتناع بين الجنود، لا سيما جنود الاحتياط، ينبع من شعور بأن هذه الحرب لا تحمل أفقًا واضحًا ولا نهاية قريبة. بعد شهور من القتال، لم تحقق المؤسسة العسكرية "نصرًا" يمكن أن يبني عليه الجندي شرعية مشاركته أو شعورًا بجدوى تضحيته. هذا الإحساس بالعبثية يتفاقم مع تصاعد الانتقادات الدولية والداخلية، وانكشاف هشاشة التفوق العسكري أمام مقاومة منظمة ومدربة. بات كثير من الجنود يرون أن الدولة تطالبهم بالتضحية من أجل أهداف سياسية مبهمة أو إخفاقات سابقة، دون استراتيجية خروج واضحة.
المرتزقة: أدوات قمع لا جنود حرب
رغم كثرة المرتزقة الذين استخدمتهم إسرائيل سابقًا في مهام حماية المستوطنات أو قمع الاحتجاجات في الضفة وغزة، إلا أن ساحة الحرب الحقيقية تختلف كليًا. في غزة، حيث تندمج حرب المدن مع الأنفاق والمفاجآت القتالية، يغيب المرتزقة عن خطوط الاشتباك:
- لأنهم لا يملكون الحافز العقائدي أو الوطني.
- ولأن أجورهم لا تعادل مخاطرة الاشتباك المباشر مع مقاومة مدربة.
- ولأن طبيعة قتال العصابات تتطلب مهارات نفسية وتكتيكية ليست ضمن عقودهم.
نجاح المرتزقة في قمع المدنيين لا يُترجم تلقائيًا إلى فاعلية في ساحة معركة حقيقية. لذلك يُستخدمون حيث يسهل عليهم السيطرة بالعنف، ويُسحبون حيث يُصبح العنف غير مضمون النتائج.
فجوة بين العسكرة والقناعة
الجيش الإسرائيلي لطالما اعتمد على فكرة "الدفاع عن الدولة اليهودية"، لكن هذه الفكرة بدأت تتآكل أمام انقسام المجتمع، وتنامي الشعور باللاجدوى، ورفض بعض الفئات، خصوصًا الشباب العلماني، الدخول في مغامرات عسكرية لأهداف يرون أنها تخدم نخبة سياسية أو دينية محددة. كذلك، يشعر كثير من اليهود المهاجرين الجدد بأنهم جاؤوا لأجل "أمان ورفاه"، لا لأجل "الانخراط في جحيم حروب مفتوحة".
انكشاف الردع الميداني
إن امتناع الجنود وغياب المرتزقة من ساحات الاشتباك يترك إسرائيل تعتمد على سلاح الجو والقصف بعيد المدى، وهو ما يقلص قدرتها على الحسم الميداني. المقاومة، في المقابل، تدرك أن هذا التفوق لا يُغني عن المواجهة البرية، وبالتالي تزداد جرأتها، وتتعمق معرفتها بنقاط ضعف العدو.
هذا الواقع الجديد يجعل إسرائيل غير قادرة على كسر شوكة المقاومة، بل تجد نفسها تستنزف في معركة طويلة الأمد بدون أفق، تُفقدها الصورة التي لطالما روجت لها كـ "جيش لا يُقهر".
قيود التوسع العسكري في المستقبل
الانعكاسات لا تقتصر على غزة، بل تمتد إلى الطموحات التوسعية الإسرائيلية في الشمال (لبنان)، أو في الشرق (إيران)، وحتى في الداخل (الضفة). فقدرتها على فتح جبهات متعددة أو الدخول في مغامرات عسكرية واسعة أصبحت محدودة، لأن:
- الجبهة الداخلية لم تعد تتحمل حربًا طويلة.
- القوى البشرية القتالية تعاني من الإنهاك أو الانسحاب.
- المرتزقة لا يصلحون إلا في العمليات القمعية أو الأمنية، لا في حروب الجبهات.
ومع تراجع هذه الأدوات، ينكمش الدور العسكري الإسرائيلي إلى حالة دفاعية، تُهدد صورة الردع وتفتح الباب لتوازنات إقليمية جديدة، تكون المقاومة فيها لاعبًا نديًا، لا مجرد "هدف جوي".
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
