
الترويج الناعم: صناعة السجائر كمنتج ثقافي
في بدايات القرن العشرين، لم تكن الإعلانات تخجل من الترويج للسجائر بل كانت تفعل ذلك بفخر. ظهرت نجوم السينما، والسياسيون، والرياضيون، بل وحتى الأطباء (!) في ملصقات تشجع على التدخين بوصفه رمزًا للثقة والأناقة والاسترخاء. لم يكن التبغ مجرد منتج بل مشروعًا ثقافيًا متكاملًا صيغ بعناية داخل مختبرات العلاقات العامة، تارةً على هيئة سيجارة تشتعل في أصابع "جمس دين"، وتارةً في فم جندي عائد من الحرب.
دعاية الترهيب: الطب حين يدخل معركة الإعلام
مع تراكم الأدلة العلمية في العقود الأخيرة، دخلت المؤسسات الصحية والحكومات على الخط، محذّرة من الآثار القاتلة للتدخين. تحوّلت علب السجائر إلى لوحات رعب مصغّرة، تتزين بصور الرئات المتفحمة، والأفواه المتقرحة، والرضع المختنقين بالدخان. لم يعد هناك مجال للغموض: التدخين يقتل. لكن هذه اللغة الصارخة لم تكن دائمًا بريئة، بل رافقتها أحيانًا نزعة تسلطية، إذ أصبح المدخن متهمًا لا مريضًا، ومجرمًا لا ضحية، مما خلق فجوة نفسية واجتماعية معقّدة.
بين خطاب الترهيب والترويج: أين تقف الحقيقة؟
الطرفان، رغم تضاد مواقفهما، يشتركان في نقطة جوهرية: كلاهما يستخدمان تقنيات الخطاب الدعائي. فالشركات تبيع وهم "الحياة الحرة"، والمؤسسات الصحية تروّج لوهم "التحكم الكامل بالصحة". وفي الحالتين، يتم توجيه السلوك البشري عبر أدوات التأثير العاطفي وليس العقلي. لا يُطلب من الإنسان أن يختار بحرية، بل أن يُدفع نحو أحد الخيارين تحت ضغط الصورة أو الخوف.
هل الخطاب التحذيري فعّال؟
رغم قسوة الصور وشدة التحذيرات، تشير دراسات متعددة إلى أن فعالية هذا الأسلوب محدودة، بل وقد تؤدي أحيانًا إلى نتائج عكسية، خصوصًا في فئات المراهقين أو المدخنين المزمنين. فكلما ازداد الترهيب، زاد الشعور بالتحدي أو الانفصال عن الخطاب الرسمي. السؤال هنا: هل نحتاج إلى وعي حقيقي أم إلى مزيد من الصراخ البصري؟ إلى تفهّم أسباب الإدمان أم إلى شيطنة المدخنين؟
السجائر كأداة للتحكم السياسي والاجتماعي
بعيدًا عن الاعتبارات الصحية، تكشف ظاهرة التدخين عن بُعد سياسي واجتماعي مُقلق: ففي كثير من الدول، تنتشر صناعة التبغ في الأحياء الفقيرة، ويُغضّ الطرف عن انتشاره بين الفئات المهمّشة. هنا، تتحول السيجارة إلى أداة ناعمة لترويض الفئات المستضعفة، تُسكّن الألم، وتُميت الغضب، وتُضعف الإرادة الجماعية. المدخن المجهَد بالنيكوتين أقل مقاومة، وأكثر خضوعًا، وأقلّ طرحًا للأسئلة الوجودية الكبرى.
حين يصبح الحلّ واضحًا... ويُتعمّد تجاهله
وسط كل هذه السرديات المتضادة، يبرز سؤال منطقي يتجاهله الجميع: لماذا لا تُمنع السجائر أصلًا إن كانت بهذا الضرر؟
الجواب يكشف عمق التواطؤ المبطّن: فالدول، رغم ادعاء الحرص على صحة مواطنيها، تُبقي السجائر متاحة ومشرعنة، بل وتُغرق رفوف المتاجر بها، وتكتفي برفع أسعارها تدريجيًا كعقوبة شكلية لا تمنع الإدمان، بل تستثمر فيه.
والسبب ليس لغزًا:
- السجائر تدرّ على الحكومات مليارات من الضرائب.
- حظرها قد يخلق سوقًا سوداء وفوضى اجتماعية.
- والتحكم في انتشارها يمنح الدول وسيلة ناعمة للسيطرة على فئات بعينها.
إنها لعبة مزدوجة: تحذير في العلن، وتربّح في الخفاء.
فلو كانت الدولة جادّة في حماية صحة شعوبها، لبدأت بإجراءات جذرية: حظر التدخين تدريجيًا، توفير برامج إقلاع مجانية، تضييق حقيقي على الشركات المروّجة، وإعادة تأطير القضية باعتبارها أزمة صحية مجتمعية لا مجرد حرية فردية.
لكن هذا الحل الفعّال يتم تجاهله بعناية، لأنه يتعارض مع ميزان المصالح المعقّدة بين السلطة، والمال، وصناعة الإدمان المربح.
البدائل تحت الحظر... بينما القاتل مرخّص رسميًا!
في مفارقة تفضح عمق التناقض، نرى كيف تُحظر في بعض الدول السجائر الإلكترونية أو بدائل التبغ الحديثة تحت ذريعة أنها "لم تُدرس بما يكفي"، أو أن محتواها "غير معروف"، أو أن نتائجها "غير مؤكدة على المدى الطويل".
لكن في المقابل، تُعرض السجائر التقليدية – التي نعلم يقينًا أنها تقتل ملايين البشر – بحرية تامة على رفوف المحلات، وتُفرض عليها ضرائب لا تمنع بيعها، بل تضفي عليها صفة "المنتج المشروع".
هذا التناقض ليس صدفة. فالبدائل – رغم كون بعضها أقل ضررًا بشكل واضح – لا تحقق نفس الأرباح للمنظومة القديمة، ولا ترتبط بذات شبكات النفوذ، كما أنها تفتح بابًا على فكرة الاستغناء عن التبغ أصلًا.
أي أن ظهور البدائل يهدد المنظومة بأكملها: الشركات، الضرائب، آليات التحكم، وحتى السردية الإعلامية.
النتيجة؟ تُشيطن البدائل ويُمنع بعضها، لا لأننا لا نعرف نتائجها، بل لأننا نعرف أنها قد تؤدي إلى ما هو أخطر على السلطة من المرض: وعي الناس بأن هناك مخرجًا من دائرة الإدمان الممنهج.
خاتمة: الرئة ليست ساحة استثمار
في النهاية، لا يمكننا اختزال ظاهرة التدخين في مجرد مسألة طبية أو خيار فردي. إنها ميدان لصراع أعمق بين التسليع والتحذير، بين حرية الإنسان ومصالح الدولة، بين سرديات تُدار من فوق، وواقع يئنّ في الأسفل.
ولعلّ أخطر ما في الأمر، ليس السجائر ذاتها، بل منظومة الكذب المتبادل التي تُبقيها حية، متاحة، متربّحة... باسم الصحة، وباسم الحرية، وباسم القانون.