
طوفان الأقصى: تحوّل في قواعد الاشتباك ومأزق السياسة الإقليمية
مفاجأة أمنية وتحول في قواعد الردع
من منظور سياسي، فاجأت عملية "طوفان الأقصى" المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بطبيعتها الهجومية غير المسبوقة، وبتجاوزها الواضح لأنظمة المراقبة والردع المتقدمة التي طالما افتخرت بها إسرائيل. العملية حملت رسائل واضحة بأن المنظومة الأمنية الإسرائيلية، رغم كل التطور التكنولوجي، غير منيعة. وقد مثّل هذا الأمر كسرًا لصورة الردع الإسرائيلي التقليدية، مما دفع تل أبيب إلى الرد بشكل غير مسبوق من حيث القوة التدميرية، لتعيد فرض هيبتها المفقودة، وإن بثمن إنساني وسياسي باهظ.
لكن العملية لم تُترجم مباشرة إلى نصر استراتيجي فلسطيني واضح، إذ تبعتها حرب مدمّرة على قطاع غزة، وخسائر كبيرة في الأرواح والبنى التحتية، في ظل غياب أفق سياسي يوازي العمل العسكري.
أثر العملية على المشهد السياسي الفلسطيني
سلّطت "طوفان الأقصى" الضوء على الفجوة بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وفصائل المقاومة في غزة، خصوصًا مع تراجع حضور السلطة كفاعل سياسي قادر على التأثير أو التعبير عن موقف جامع. ظهرت السلطة كطرف ضعيف أو مهمَّش، مما عزز الانطباع الداخلي والخارجي بكونها غير قادرة على تقديم مشروع سياسي مقنع أو تمثيل حقيقي للشعب الفلسطيني، وهو ما أضعف فرصها في أي مفاوضات مستقبلية.
في المقابل، أعادت العملية الاعتبار لفكرة "المقاومة المسلحة" كأداة سياسية لا تزال حاضرة في الوجدان الشعبي الفلسطيني، رغم الخسائر المترتبة عليها، ما أثار جدلًا واسعًا بين أطراف ترى فيها أداة وحيدة للضغط، وأخرى تعتبرها خيارًا مكلفًا وغير مستدام في ظل اختلال موازين القوى.
عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة العالمية
أحد أبرز التحولات السياسية غير المباشرة لعملية "طوفان الأقصى" كان في إحياء القضية الفلسطينية عالميًا بعد سنوات من التهميش تحت سيطرة الرواية الإسرائيلية في الإعلام الدولي. فعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار الصور المروعة من غزة، حدثت موجة عالمية غير مسبوقة من التضامن الشعبي، خصوصًا بين الأجيال الشابة في الغرب، والطلاب، والنشطاء الحقوقيين، ما فرض حالة من الحرج على عدد من الحكومات الغربية.
ولأول مرة منذ عقود، بدا أن إسرائيل تخسر المعركة الإعلامية، رغم الميزانيات الضخمة التي استثمرتها في ترويج سرديتها. فالتفاعل الشعبي العالمي خرج عن سيطرة غرف الأخبار التقليدية، لتتشكل حركة دعم غير مركزية، أربكت المؤسسات الدبلوماسية والإعلامية الموالية لتل أبيب. عادت فلسطين لتكون قضية إنسانية وأخلاقية أمام العالم، بعد أن كانت حبيسة ملفات التفاوض والتطبيع وصفقات السياسة.
مأزق السياسة الإسرائيلية بعد العملية
وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها بعد "طوفان الأقصى" أمام أزمة سياسية وأمنية مزدوجة. على الصعيد الداخلي، تزايدت الانتقادات ضد القيادة السياسية والعسكرية لفشلها في التنبؤ بالهجوم، مما عمّق الانقسام السياسي الداخلي وأضعف ثقة الجمهور بالحكومة. أما على الصعيد الخارجي، فقد واجهت إسرائيل تحديات في تبرير ردها العسكري الواسع أمام موجة الانتقادات الدولية المتصاعدة بشأن الانتهاكات ضد المدنيين.
وقد كشفت هذه العملية أن استراتيجية الردع وحدها لم تعد كافية لتحقيق الأمن، وأن الاعتماد على القوة دون مسار سياسي واضح أصبح أكثر كلفة وأقل فعالية، خصوصًا في ظل تراجع الدعم الشعبي العالمي، حتى في الدول الحليفة تقليديًا.
ارتباك في المواقف الإقليمية والدولية
إقليميًا، وضعت العملية عددًا من الدول العربية، وخاصة الموقعة على اتفاقيات تطبيع، في موقف حرج بين ضغوط شعوبها ومصالحها مع إسرائيل. فبعض الأنظمة أصدرت مواقف رمادية توازن بين "حق الدفاع عن النفس" و"ضرورة وقف التصعيد"، لكنها لم تستطع تجاهل عودة الزخم الشعبي الكبير المؤيد لفلسطين.
أما دول مثل إيران وحلفاؤها الإقليميون، فقد وجدت في العملية فرصة لتعزيز خطابها السياسي المعادي لإسرائيل، دون انزلاق إلى مواجهة مباشرة، في حين دعمت الولايات المتحدة إسرائيل دعمًا مطلقًا، ما كشف مجددًا ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان.
خاتمة
أعادت "طوفان الأقصى" ترتيب أوراق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على نحو غير مسبوق منذ سنوات، وخلقت معادلات جديدة في الداخل الفلسطيني، وفي حسابات إسرائيل الأمنية والسياسية، وداخل المنظومة الإقليمية والدولية. ورغم أن الكلفة الإنسانية للعملية وردّها كانت هائلة، فإن الأثر السياسي بعيد المدى يبدو أكثر تعقيدًا. لقد فتحت العملية الباب أمام مراجعة عالمية للسرديات المتداولة، وأعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الوعي السياسي والأخلاقي العالمي، لكنها في الوقت ذاته، عمّقت أزمة الحل السياسي، وأظهرت حدود القوة العسكرية في تحقيق الأمن المستدام أو التسويات العادلة. وبين الواقع القائم والآمال المعلّقة، يبقى مستقبل الصراع مفتوحًا على سيناريوهات تتراوح بين التصعيد والتآكل التدريجي للثوابت دون حلول جوهرية في الأفق القريب.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
