
الضربة النووية الثانية
مفهوم الضربة النووية الثانية من أكثر المفاهيم العسكرية تعقيدًا وخطورة في عالم السياسة الدولية. إن الحديث عن هذا الموضوع لا يمكن أن يقتصر على الجانب الفني أو النظري وحده، بل يجب أن يُفهم في سياقه السياسي والنفسي والتاريخي، إذ يشكّل ركيزة توازن الرعب بين القوى النووية الكبرى، وضمانة لعدم انزلاق العالم إلى محرقة شاملة.
هذا المقال يسلط الضوء على التسلسل المنطقي لفكرة الضربة الثانية، بدءًا من التخوف من المبادرة النووية، مرورًا بالضربة الأولى، وانتهاءً بالضربة الثانية نفسها.
الخوف من المبادرة النووية: رعب البادئ قبل رعب الضحية
رغم امتلاك عدد من الدول لترسانات نووية هائلة، إلا أن الإقدام على استخدامها ليس قرارًا عسكريًا مجردًا، بل هو عبور لحاجز نفسي وسياسي وأخلاقي بالغ الخطورة. في العقيدة النووية، الدولة التي تبادر بالضربة لا تكون الطرف القوي، بل الطرف الذي يلعب بالنار وهو يدرك أنها ستحرقه كما ستحرق خصمه.
هذا التخوف الجوهري مرده أن الحرب النووية لا تبدأ وتنتهي بضربة واحدة. فحتى لو افترضت الدولة المهاجمة قدرتها على تدمير العدو بشكل ساحق، يبقى احتمال رد العدو واردًا، بل شبه مؤكد. وهذا ما يسمّى بـ"الردع النووي المتبادل"، حيث يعلم كل طرف أن استخدامه للسلاح النووي سيقابله دمار مماثل، وربما أشد.
بمعنى آخر، في عالم السلاح النووي، الانتصار وهم، والخسارة شاملة للطرفين.
الضربة الأولى: إغراء المبادرة وخطرها الوجودي
الضربة النووية الأولى تُعرّف على أنها محاولة استباقية لتوجيه ضربة ساحقة إلى دولة نووية عدوة بهدف تحييد قدراتها على الرد، سواء بتدمير صواريخها في قواعدها، أو قتل قيادتها السياسية والعسكرية، أو شل بنيتها التحتية.
ورغم ما يبدو في ظاهرها من "ميزة تكتيكية"، إلا أن الضربة الأولى تنطوي على مخاطرة استراتيجية هائلة، لأسباب عدة:
- لا يمكن التأكد من تدمير جميع منصات إطلاق العدو، خصوصًا الغواصات النووية المتخفية في المحيطات.
- توجد أنظمة تلقائية مصممة للرد حتى بعد فناء القيادة أو انقطاع التواصل مع الدولة.
- الهجوم نفسه سيُفسّر بأنه إعلان نهاية اللعبة، ما يعني أن العدو سيطلق ما تبقى لديه في أقصر وقت ممكن.
إن محاولة كسب الحرب النووية عبر الضربة الأولى تشبه من يلعب الشطرنج بقنبلة يدوية في حضنه: اللحظة التي يستخدم فيها سلاحه، تخرج اللعبة كلها من بين يديه.
الضربة الثانية: قلب ميزان الردع
هنا يظهر مفهوم الضربة الثانية كجوهر الردع النووي الحقيقي. الضربة الثانية ليست مجرد رد، بل تعهد ضمني من الدولة المستهدفة بأنها، حتى وإن دُمّرت، سترد وتدمّر المعتدي. وهذا هو ما يجعل السلاح النووي أداة ردع لا أداة نصر.
الدول النووية تصمّم استراتيجياتها لضمان تنفيذ الضربة الثانية حتى في حال الإبادة الكاملة أو فقدان القيادة. ولهذا تُبنى المنظومات النووية وفق طبقات متعددة تضمن الرد في أسوأ السيناريوهات.
من أبرز هذه الوسائل:
- الغواصات النووية التي تُبحر في أعماق البحار، وتحمل أوامر مشفرة تتيح لها الرد تلقائيًا إذا فُقد الاتصال بالقيادة لوقت معين.
- الأنظمة الآلية مثل "اليد الميتة" الروسية، المصممة لإطلاق الصواريخ تلقائيًا إذا توفرت أدلة على وقوع ضربة نووية وفُقد الاتصال بقيادات الدولة.
- الرسائل المغلقة التي تُوضع في الغواصات (كما في بريطانيا) ولا تُفتح إلا إذا دُمرت الدولة بالكامل.
هذه الوسائل لا تعمل بطريقة عشوائية، بل وفق خطط استهداف محددة سلفًا تشمل أهدافًا مدنية وعسكرية في الدول التي تُعتبر عدوًا استراتيجيًا.
من أين تعرف الصواريخ من هو العدو؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن تمييز العدو في حالة الفوضى النووية أمر معقد، لكن الحقيقة أن كل شيء مبرمج مسبقًا. الدولة التي تتلقى الضربة لا تنتظر تحليلًا فوريًا، بل تملك خططًا جاهزة تحدد من هو العدو المفترض، وما هي الأهداف، وكيف يتم الرد.
أنظمة الإنذار المبكر، سواء كانت أقمارًا صناعية أو رادارات أرضية، قادرة على تتبع مسار الصواريخ وتحديد نقطة الإطلاق بدقة. وبمجرد تحديد المصدر، يُفعّل الرد تلقائيًا وفق البرمجة المسبقة.
الرد قائم حتى بعد الفناء
الجانب الأكثر رعبًا في الضربة الثانية هو أنها لا تتطلب وجودًا بشريًا مباشرًا لتنفيذها. فقد تم تصميم هذه الأنظمة كي لا تُشلّ حتى لو انتهت الدولة فعليًا. وهذا ما يجعل السلاح النووي مختلفًا عن أي سلاح عرفه التاريخ.
الرد يمكن أن يأتي من قاع المحيط، من قاعدة تحت الأرض، أو حتى من نظام آلي لا يحتاج لأحد كي يضغط الزر. وهذا ما يجعل كلفة المبادرة باستخدام السلاح النووي تفوق قدرة أي دولة على تحمّلها، بغض النظر عن قوتها.

خاتمة: لماذا لم تقع الحرب النووية حتى الآن؟
السبب لا يعود إلى أخلاقيات الدول أو التزامها بالسلم، بل إلى توازن الرعب الذي فرضته الضربة الثانية. هذا المفهوم هو ما يمنع العالم من الانزلاق إلى الحرب الشاملة، لأنه يذكّر الجميع أن استخدام السلاح النووي يعني النهاية للجميع.
إنه سلام هش، قائم على الخوف لا على الثقة، وعلى الاستعداد للفناء لا على الأمل في النجاة.
وفي هذه المفارقة المرعبة، تستمر البشرية في العيش تحت ظل الزر الأحمر… دون أن يجرؤ أحد على لمسه.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
