
Friday, May 9, 2025
المرحلة الثانية من الثورة: واقع مختلف وبداية تشكيل المنطقة

مقدمة:
سقوط النظام وبزوغ واقع سياسي غير متوقع
بعد أكثر من عقد على الحرب السورية، سقط النظام الذي ارتبط اسمه بالدمار والدماء، وخرج بشار الأسد من المشهد السياسي في نهاية عام 2024، في لحظة تاريخية غير متوقعة. لكنّ المفاجأة الأكبر لم تكن في سقوط الأسد بحد ذاته، بل في من ورث السلطة: فصيل إسلامي، كان يُعد حتى الأمس القريب منظمة متطرفة، أصبح فجأة في موقع قيادة الدولة.
في ظل هذا الزلزال السياسي، أعادت القوى الإقليمية والدولية ترتيب أوراقها، وبدأت ملامح سوريا جديدة تتشكل على أنقاض حقبة الأسد.
1. تحوّل غير مسبوق: من الجهادية إلى البراغماتية
استلمت هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، السلطة بعد انهيار النظام السابق، مدفوعة بفراغ سياسي وتقدّم ميداني مدروس.
المفاجأة الأهم كانت في الخطاب الأيديولوجي الجديد الذي تبنته القيادة؛ إذ انتقل من الشعارات الجهادية إلى لهجة سياسية وطنية، تطرح نفسها كقوة تحكم وفق "مرجعية إسلامية معتدلة" تسعى لبناء دولة رشيدة، لا مشروع خلافة أو صراع عالمي.
2. الذراع الخفية: كيف هندست تركيا المشهد الجديد؟
لعبت تركيا دورًا مركزيًا، ليس فقط من خلال وجودها العسكري شمال سوريا، بل عبر تنسيق مع الهيئة وتطويع فصائل المعارضة لضمان استقرار المشهد الجديد.
أنقرة لم تعلن دعمها صراحة، لكنها وفّرت المظلة السياسية والأمنية للانتقال، مقابل ضمانات تتعلق بالأمن القومي، وعلى رأسها:
- تحييد التهديد الكردي
- منع موجات لجوء جديدة
- إدارة حدودها الجنوبية عبر حلفاء موثوقين
3. موسكو تتكيّف: حماية النفوذ أهم من حماية الأسد
رغم كونها الداعم الأول للأسد، اتبعت روسيا نهجًا براغماتيًا بعد سقوطه.
أوفدت مسؤولين رفيعين، وأجرت محادثات مباشرة مع القيادة الجديدة، مركّزة على الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، خصوصًا:
- قاعدة طرطوس البحرية
- قاعدة حميميم الجوية
- اتفاقيات الطاقة والتسليح
موسكو تدرك أن استمرار نفوذها ممكن حتى دون الأسد، ما دامت المصالح مضمونة.
4. طهران المرتبكة: خسارة الحليف وتآكل النفوذ
شكل انهيار نظام الأسد ضربة استراتيجية قاصمة لإيران، التي كانت تعتبر دمشق عقدة وصل حيوية في مشروعها الإقليمي الممتد من طهران إلى بيروت.
القيادة الجديدة تنظر بعين الريبة لإيران، وتسعى لتقليص نفوذ ميليشياتها، مما أجبر طهران على التراجع خطوة للوراء، مع مزيج من التصريحات الحذرة والتهديدات الرمزية.
5. انفتاح بشروط: الغرب يراقب ويتفاوض بحذر
أبدت الولايات المتحدة وفرنسا، ومعهما عدد من الدول الأوروبية، استعدادًا للتعامل مع السلطة الجديدة ضمن شروط واضحة:
- احترام حقوق الإنسان
- محاربة الإرهاب
- ضمان استقرار المنطقة
زيارة أحمد الشرع إلى باريس، ومحادثات غير رسمية مع مسؤولين أميركيين، تعكس محاولة لفتح قنوات "عقلانية" دون تبنٍّ مباشر للنظام الجديد.
6. العودة العربية: فرصة لتقليص الفراغ الإيراني
في ظل تراجع طهران، الدول العربية، وخاصة السعودية وقطر، وجدت فرصة لإعادة سوريا إلى الحاضنة العربية.
- زار وزير الخارجية السعودي دمشق وأبدى دعم بلاده
- قام أمير قطر بزيارة رمزية ذات دلالة سياسية كبيرة
- هناك مساعٍ لإنشاء شراكات اقتصادية مبكرة في مناطق شمال سوريا
العرب لا يراهنون على الأيديولوجيا، بل على فرصة لخلق توازن جديد يكبح النفوذ التركي والإيراني معًا.
7. واقع هش: تحديات الحكم أكبر من الانتصار
رغم الإمساك بالسلطة، تواجه الحكومة الجديدة حزمة معقّدة من التحديات:
- دمار واسع في البنى التحتية
- نسيج اجتماعي ممزق
- ملايين اللاجئين والنازحين
- اقتصاد شبه معدوم
- بؤر تمرد وجيوب مقاومة
القيادة الجديدة أعلنت خططًا لإعادة الإعمار وتحقيق المصالحة الوطنية، لكنها تعلم أن النجاح يتطلب أكثر من نوايا حسنة.
8. استشراف المستقبل: ثلاثة سيناريوهات مفتوحة
المشهد السوري قابل للتطور في عدة اتجاهات:
- مشروع وطني إسلامي ناجح: نموذج مشابه لحزب العدالة والتنمية في بداياته، برعاية تركية وغربية، مع حضور عربي داعم.
- انفجار داخلي لاحق: فشل الإدارة في ضبط الداخل أو التوفيق بين الأطراف قد يعيد البلاد إلى مربع الفوضى.
- تسوية دولية جديدة : توزيع جديد للنفوذ بين روسيا وتركيا والغرب، مع تحييد دور إيران، وإعادة إنتاج دولة سورية "معدّلة".
خاتمة:
سوريا تعيد رسم دورها... والمنطقة تتهيأ لمعادلات جديدة
ما حدث في سوريا ليس مجرد تغيير في هوية الحاكم، بل تحوّل جذري في طبيعة الدولة، ومسار الثورة، وموقع البلاد في معادلات الإقليم. القيادة الجديدة تواجه اختبارًا تاريخيًا: هل تنجح في التحوّل من فصيل مسلّح إلى سلطة مسؤولة؟
وفيما تعيد القوى الإقليمية والدولية تموضعها، تتجه أنظار الجميع إلى دمشق، لا بوصفها عاصمة منهكة، بل كنقطة انطلاق لواقع سياسي جديد قد يعيد ترتيب الشرق الأوسط من جديد.
المرحلة الثانية من الثورة السورية بدأت، لكن مآلاتها لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات: نهوض، أو ارتداد، أو ربما إعادة إنتاج لصراع بصيغة أكثر تعقيدًا.
نجاح هذا النموذج أو فشله سيكون له صدى يتجاوز حدود سوريا، ليؤثر في طبيعة الصراع في الشرق الأوسط بأكمله.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
