فروق: نابليون بونابرت: عبقرية صنعت مجدًا.. وطموح أحرق إمبراطورية

Saturday, May 10, 2025

نابليون بونابرت: عبقرية صنعت مجدًا.. وطموح أحرق إمبراطورية

نابليون بونابرت، أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الحديث، جمع بين عبقرية القيادة وسوء استغلال السلطة. من ضابط بسيط إلى إمبراطور يُعيد تشكيل أوروبا، طبع اسمه في ذاكرة العالم كرمز للطموح غير المحدود. لكنه، في طريقه نحو المجد، دهس القيم التي رُفعت في زمن الثورة، وخان شعوبًا وثقت فيه. انتصر في ميادين كثيرة، وخسر في معارك الأخلاق والسياسة. في هذا المقال، نغوص في جوانب العظمة والانحدار، لنفهم كيف يرتفع الإنسان حتى يلامس القمم... ثم يسقط منفردًا في المنفى.


نابليون بونابرت : بين عظمةٍ تهزّ أوروبا وسقوطٍ في غرور الطموح


رجل عادي من طرف الحدود .. أمسى إمبراطورًا

نابليون بونابرت، الاسم الذي دوّى في أرجاء أوروبا، بدأ حياته كضابط مغمور لا يجيد الفرنسية بطلاقة، لكنه كان يحمل في داخله طموحًا يتجاوز حدود جزيرته الكورسيكية الصغيرة. في زمنٍ تتهاوى فيه الملكيات، ويعلو فيه صوت الثورة الفرنسية، شقّ طريقه بدهاء وسرعة إلى قمة السلطة، ليصنع من نفسه قائدًا مهابًا، ثم إمبراطورًا يغيّر خريطة القارة.

حفر لنفسه مكانًا بين العظماء بفضل ذكائه العسكري وقدرته الفريدة على تحريك الجيوش كما لو كانت قطع شطرنج، محققًا انتصارات أذهلت خصومه وأذهلت حتى مؤيديه. سنّ قوانين جديدة، نظّم الإدارة، ودفع فرنسا إلى واجهة الحداثة الأوروبية. لكن خلف هذا البريق، كانت هناك ظلال كثيرة تتكثف كلما اقتربنا من شخصه.


دهاءٌ يروض الثورات : كيف أقنع فرنسا بالعودة إلى حكم الفرد؟

بعد أن سادت شعارات الثورة الفرنسية لسنوات، استطاع نابليون بدهاء سياسي خارق أن يُقنع شعبًا ثار على الملكية بأن الحل هو... إمبراطور جديد. استخدم فوضى ما بعد الثورة كذريعة لترسيخ سلطته، ثم ربط الاستقرار والنهضة باسمه، إلى أن بايعته الجماهير بإرادتها – أو ظنّت ذلك – ليتوَّج إمبراطورًا في لحظةٍ مسرحية، وضع فيها التاج على رأسه بنفسه، معلنًا عودته إلى حكم الفرد باسم "الجمهورية".


كلمات عبقرية ناعمة وفجور فج : كيف خدع المصريين باسم الإسلام؟

حين دخل مصر عام 1798، ارتدى نابليون قناعًا دينيًا ليتقرب من الشعب. تظاهر باحترام الإسلام، وأصدر منشورات باللغة العربية يثني فيها على النبي محمد ويهاجم المماليك، زاعمًا أنه "صديق للمسلمين". استقبلته بعض النخب بحذر، وآخرون بفضول.

لكن القناع لم يلبث أن سقط. فبعد أن استقر في القاهرة، بدأت جرائم الاحتلال تتكشف: قمعٌ دموي، نهب، واستهزاء بالمقدسات. قُتل الأهالي في الشوارع، وسُحقت التطلعات الشعبية. تحوّل "صديق المسلمين" إلى قاتلهم، وبدد وعوده كما لو أنها لم تكن. لم تكن مصر بالنسبة له إلا ورقة في طموحاته الإمبراطورية.


وجوه كثيرة ... والكل أداة : انتهازية نابليون السياسية

في كل مرحلة من مسيرته، استغل نابليون رجال السياسة والضباط من حوله ليصعد فوق أكتافهم. لم يتردد في التخلص من من خدموه بمجرد أن انتفت حاجته إليهم. تحالفات وقتية، ووعود لا تُحترم، وانقلابات ناعمة ضد من وضعوا فيه ثقتهم. كان يحيط نفسه بالعباقرة، لكنه لا يسمح لأحد بالبروز سواه.


أنا البطل الأوحد : سرقة الأضواء من خلف الستار

من أبرز مآخذه أنه كان ينسب لنفسه إنجازات لم يكن له فيها إلا القليل، متجاهلًا قادةً عسكريين ومخططين عباقرة شاركوا في انتصاراته. تقاريره الموجهة للجمهور الفرنسي كانت مليئة بالتضخيم الذاتي، يُخفي فيها أسماء الآخرين، ويُقدم نفسه كقائد أوحد للنجاح.


جيش في الثلج وطموح قاتل : المقامرة الكارثية في روسيا

في عام 1812، قاد نابليون أكبر جيوشه نحو روسيا، في مغامرة متهورة تطلبها غروره. تجاهل التحذيرات من قساوة الشتاء الروسي، وخططه لم تتضمّن خطوط إمداد واضحة. كانت النتيجة مأساة: مات مئات الآلاف من الجنود، ولم يُحقق شيئًا سوى الخراب.

أما هو، فقد تركهم خلفه في الجليد، وعاد إلى فرنسا في مشهد يُلخّص أنانيته: رجل طموح على حساب أمةٍ تنزف.


ثورة لأجل العبودية : من جمهوريات الحرية إلى قمع الإمبراطورية

جاء نابليون على أنقاض الثورة الفرنسية، لكنه سرعان ما أعاد تأسيس دولة بوليسية تخنق الحريات. ألغى الانتخابات الحقيقية، فرض رقابة صارمة على الصحف، واحتكر القرار السياسي. انتهت آمال الجمهورية في ظل إمبراطورية تُدار بعقل رجل واحد.


لغة السلاسل : اعادة العبودية من جديد

بعد أن ألغت الثورة الفرنسية العبودية، أعادها نابليون في مستعمرات فرنسا عام 1802، ليضمن تدفق الثروات إلى خزائن باريس. القرار لم يكن فقط رجعيًا، بل أثار تمردات عنيفة في جزر الكاريبي، وسفك دماء من أجل حماية نظام ظالم، أُعيد من أجل المصالح الاقتصادية.


حروب لا تنتهي ... وتحترق أوروبا من أجل رجل واحد

قاد نابليون أوروبا إلى سلسلة حروب مدمّرة، كانت ضحاياها بالملايين. كلما انتصر، طالب بالمزيد. وكلما هُزم، جرّ القارة كلها إلى حرب جديدة. لم يعرف الاكتفاء، ولم يكن يرى في السلام خيارًا، بل ضعفًا. حوّل أوروبا إلى ساحة دائمة للاشتعال.


صراخ العزلة : كيف تحوّلت فرنسا إلى دولة منبوذة؟

بسبب سياساته التوسعية، اجتمعت عليه القوى الكبرى. تشكلت تحالفات أوروبية متتالية، جعلت فرنسا في عزلة متزايدة. بدأ الشعب الفرنسي يدفع ثمن الطموح الشخصي لقائده، وتراجعت صورة فرنسا في الخارج من محرّكة للتاريخ إلى دولة محاصرة.


حبٌّ تحت الحساب : العلاقات الخاصة كصفقات سياسية

حتى في زواجه، كان نابليون براغماتيًا. تزوج جوزفين من أجل المكانة الاجتماعية، ثم طلقها بعد فشلها في إنجاب وريث، ليقترن بأرشيدوقة نمساوية من أجل تحالف سياسي. لم تكن العاطفة محور قراراته، بل كل شيء يُحسب وفق المنفعة.


النهاية : امبراطور وحيد في المنفى

بعد هزيمته في معركة واترلو، انتهى عصر نابليون فعليًا. أُجبر على التنازل عن العرش، ونُفي إلى جزيرة سانت هيلينا في المحيط الأطلسي. هناك، وسط عزلة قاسية، قضى سنواته الأخيرة مراقبًا من بعيد كيف تبخّر حلمه الإمبراطوري.

الرجل الذي أرعب أوروبا، ومشى مزهوًا في شوارع فيينا وبرلين، مات في منفى مجهول. هكذا سقط جبل الطموح، وتحوّل إلى درس تاريخي عن خطورة الغرور، وعن الثمن الذي تدفعه الأمم حين يُسلَّم مصيرها لرجل واحد.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .