
الذوق الفني في شخصية الناقد
الذوق الفني هو حجر الأساس في تكوين شخصية الناقد؛ فهو لا يقتصر على مجرد التفضيل الشخصي أو الانجذاب العاطفي للعمل الفني، بل يتجلى كقدرة عميقة على التمييز بين الجمال الحقيقي والزائف، وعلى قراءة التفاصيل وفهم السياقات التي وُلد فيها العمل. في شخصية الناقد، يُعد الذوق الفني مزيجًا من الحس الجمالي المرهف، والثقافة الواسعة، والخبرة التراكمية، ما يمنحه قدرة خاصة على إصدار أحكام ذات قيمة وعمق.
ولا يتوقف هذا الذوق عند حدود الفن وحده؛ بل يتجاوز إلى الذوق النقدي الذي يمتد إلى مختلف مجالات الحياة، من أسلوب الحوار، إلى اختيار الكلمات، إلى تقييم التصرفات الاجتماعية، وحتى إلى طريقة ارتداء الملابس أو ترتيب المنزل. الناقد بطبيعته يحمل حسًا مرهفًا تجاه التناسق، والملاءمة، والمعنى الكامن في التفاصيل الصغيرة، سواء كانت لوحة تشكيلية، أو خطابًا سياسيًا، أو حتى موقفًا إنسانيًا.
فهو لا يُمكن أن يكون مجرد متلقٍّ سلبي أو مشاهد عابر؛ بل لا بد أن يكون لديه حس مرهف يلتقط ما لا يراه غيره، وذوق يُهذَّب باستمرار عبر الاطلاع والتجربة والانفتاح على المدارس والأساليب المتنوعة. فذوقه النقدي لا يتشكل عشوائيًا، بل ينبني على مراجع معرفية، وتكوين ذهني متماسك، ووعي بأبعاد الظواهر من حيث الشكل، والمضمون، والدلالة.
كما يُمثل الذوق النقدي عند الناقد أداة توازن بين العقل والعاطفة. فبينما يحلل الظواهر والأعمال وفق قواعد منطقية ومفاهيم راسخة، يظل يحتكم أيضًا إلى الانفعال الصادق والحس الإنساني. ومن هنا، تظهر سمة أخرى مهمة في ذوق الناقد: المرونة، أي قدرته على تقدير جماليات أو آراء لا تتوافق بالضرورة مع ذائقته المألوفة، ولكنها تملك مبرراتها الموضوعية وصدقها التعبيري أو السلوكي.
في نهاية المطاف، فإن الذوق الفني والنقدي في شخصية الناقد لا يُقاس بذائقته الخاصة فحسب، بل بقدرته على قراءة الذوق العام وتحليله، وعلى توجيه المتلقي لفهم أعمق لما يدور حوله. الناقد الحق لا يصنع الذوق، بل يُنير طريقه، ويُعلم الناس كيف يرون ما وراء المألوف، وكيف يطلبون المعنى قبل المظهر، والاتزان قبل الضجيج.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
