
فهل يصبح الإعلام بريئًا لأنه نقل ما قيل؟ وهل يُعفى من جريمة التضليل لأنه لم يضف من عنده شيئًا؟
إن المفارقة المرّة التي تختزل هذه العلاقة تكمن في العبارة:
"الإعلام أصدق ما فيه أنه ينقل ما قاله السياسي. والسياسي لا يقول الحق."
فلنفكك هذه الجملة، لنفهم من خلالها كيف يُصنع الوعي الزائف باسم المهنية والحياد.
الإعلام لا ينقل… بل يصنع المعنى
عند النظرة السطحية، يبدو الإعلام ناقلًا، مجرد وسيط محايد بين الفاعل والناس. لكنه في الحقيقة ليس ناقلًا لما جرى، بل لما اختار أن يقدّمه مما جرى.
فالعملية الإعلامية تمر عبر ثلاث مراحل رئيسية:
- الانتقاء: ما الذي سنعرضه وما الذي سنخفيه؟
- الصياغة: بأي لغة وبأي عنوان سنقدّم الحدث؟
- التأطير: ضمن أي سردية سيوضع الكلام؟ هل هو تهديد؟ إنجاز؟ أزمة؟
كل مرحلة من هذه المراحل تعني أن الإعلام لا ينقل ما قاله السياسي فحسب، بل يعيد إنتاجه في قالب معيّن، يخدم توجهًا سياسيًا، أو يمهّد لقبول إجراء، أو يسهم في تشكيل تصوّر عام.
السياسي لا يبحث عن الحقيقة… بل عن القبول
السياسي في الأنظمة الحديثة ليس فيلسوفًا ولا شاهدًا على العصر، بل هو مُدير إدراك جماعي.
إنه لا يُهمّه أن يقول الصدق، بل أن يقول ما يجعل الناس مطمئنين، أو خائفين، أو غاضبين، حسب ما يخدم مصلحته.
ولذلك فإن تصريحه الإعلامي ليس تعبيرًا عن الواقع، بل إنتاجًا له.
حين يقول السياسي: "نحن نعيش في أفضل حالاتنا الاقتصادية"، فهو لا يصف الحقيقة، بل يبني سردية دفاعية مسبقة لأي احتجاج قادم.
وحين يقول: "العدو يتربص بنا"، فهو لا ينقل معلومة أمنية، بل يصنع حالة خوف تشرعن القمع القادم.
حين يكون الإعلام "صادقًا" في نقل الكذب!
هنا تكمن المفارقة:
حين ينقل الإعلام تصريح السياسي دون تدخل، يبدو "موضوعيًا"، لكنه في الحقيقة يصبح ناقلًا مخلصًا للكذب الرسمي.
إنه لا يضيف كذبه الخاص، لكنه يضفي على الكذب المؤسسي صورة من الجدية والاحترام والشرعية.
الإعلام لا يكذب أحيانًا لأنه اخترع المعلومة، بل لأنه نقل الكذبة دون مساءلة، ثم قدّمها للجمهور في ثوب المهنية.
وهنا يُفهم المعنى العميق لعبارة:
"الإعلام أصدق ما فيه أنه ينقل ما قاله السياسي... والسياسي لا يقول الحق."
فالصدق هنا ليس فضيلة، بل جريمة متقنة.
الحياد الإعلامي: الخدعة الكبرى
يتذرع الإعلام دومًا بمقولته الشهيرة: "نحن فقط ننقل ما قيل".
لكن هذه المقولة ليست دليلًا على النزاهة، بل أداة لتبرئة الذات من المسؤولية الأخلاقية.
ففي عالم يهيمن عليه التضليل، لا يكفي أن تنقل، بل يجب أن تسائل، تفسّر، تكشف السياقات، وتضع التصريحات في ميزان الواقع لا في قوالب البروتوكول.
الإعلام الذي يكتفي بالنقل، دون تحليل، يتحوّل من سلطة رابعة إلى بوق السلطة الأولى.
الخاتمة: من يفضح من؟
حين يتخلى الإعلام عن دوره النقدي، يصبح مجرد قناة لعبور الأكاذيب الرسمية.
وحين يختبئ وراء الحياد، يكون قد اختار الانحياز... لا للحقيقة، بل لمن يملك القدرة على صناعة الوهم.
وفي هذا السياق، تصبح أكثر لحظات الإعلام "صدقًا"، هي في الحقيقة لحظاته الأشد تضليلًا، لأنه قال كل شيء… دون أن يقول شيئًا.