
حين يكون "فصل الدين" مطلبًا انتقائيًا:
العلمانية في السياق العربي غالبًا ما تُطرح باعتبارها ضرورة للتحرر من سلطة رجال الدين، أو الخروج من نفق الاستبداد السياسي المغلَّف بالدين. لكن الطرح ذاته يتجاهل سؤالًا محوريًا: هل الفصل المطلوب هو بين الدين والدولة؟ أم بين الدين والتوظيف السياسي النفعي؟
فالأنظمة الغربية التي يُضرب بها المثل لا تتورع عن استخدام الخطاب الديني المسيحي في تبرير قرارات مصيرية، من غزو العراق إلى دعم الكيان الصهيوني، وصولًا إلى شيطنة الإسلام في الإعلام الجماهيري.
الدين في خطاب الغرب: مُحرّك أم غطاء؟
لا يمكن تجاهل أن كثيرًا من الخطابات الغربية، سواء من رؤساء أو ساسة أو حتى مؤسسات بحثية، تُغلِّف قراراتها بصبغة دينية حين تستدعي الضرورة.
جورج بوش الابن تحدث علنًا عن "الحرب الصليبية" بعد أحداث 11 سبتمبر، واعتبر نفسه "مُرسلًا من الرب" لحماية العالم من الشر. هذا النوع من الخطاب، حين يصدر من زعيم غربي، يُستقبل كرمزية ثقافية أو مجرد تعبير شخصي. أما إذا قاله زعيم مسلم، فإنه يُوسم مباشرة بالتطرف أو الإرهاب أو التخلف.
علمانية بلا نقد للمركز الغربي:
ورطة العلمانيين العرب أنهم لم يفككوا البنية الخطابية للعلمانية الغربية نفسها، ولا حاكموا ازدواجيتها. فهم يستوردون الفكرة كـ"وصفة جاهزة"، دون أن يلحظوا أن الغرب لا يطبّق العلمانية على نفسه كما يريدها لغيره.
الكنيسة لا تزال لاعبًا سياسيًا في أوروبا. والهوية المسيحية تُطرح كمكوّن ثقافي محوري في قوانين الهجرة، والتعليم، وحتى في سياسات الاتحاد الأوروبي. فلماذا يُطلب من العرب أن ينزعوا الدين تمامًا من المجال العام، بينما "الآخر" يمارسه بمرونة استراتيجية؟
الطريق إلى علمانية ناقدة لا مستلبة:
المطلوب ليس استيراد علمانية جاهزة من تجربة غربية مشروطة، بل إعادة صياغة العلاقة بين الدين والسياسة انطلاقًا من الوعي التاريخي والثقافي للمجتمعات العربية.
ليس الدين هو العدو، بل توظيفه كسلاح أيديولوجي لتبرير القمع أو الاستبداد أو الاحتلال.
والخطاب العلماني العربي لا يملك صدقية ما لم يجرؤ على نقد التوظيف الديني الغربي، تمامًا كما يطالب بفصل الدين عن الدولة في الداخل.
خاتمة:
ورطة العلمانيين العرب أنهم يتبنون خطابًا مزدوجًا دون وعي: يرفضون صبغ السياسات بالدين محليًا، ويغضون الطرف عن صبغ السياسات الغربية بالدين نفسه الذي يُمنع على "الآخرين".
وهنا تتجلى الإشكالية: ليست المشكلة في الدين، بل في من يُسمَح له باستخدامه، ومن يُمنَع، وفقًا لمنظومة الهيمنة العالمية.