ما سر صمود أهل غزّة رغم الإبادة والتجويع وتواطؤ الحصار العالمي؟

في زمن تكشّفت فيه الأقنعة، وتهاوت فيه الشعارات، تقف غزّة وحدها لا كمجرد مدينة، بل كحقيقة تفضح زيف العالم. تُقصف، تُحاصر، تُجَوَّع، وتُتْرَك وحيدة، ثم تُسأل: لماذا لا تموتين؟ السؤال في حدّ ذاته يعكس عجز العالَم لا عن الفهم، بل عن التصديق بأن هناك من ما زال يؤمن بشيء أثمن من الحياة: الكرامة. فهل سرّ الصمود في السلاح؟ في الأنفاق؟ في الحجارة؟ لا. السر أعمق من كل هذا. إنه في الإنسان الذي لم يعد يُشبه هذا العصر.

الإيمان لا يُقصف

لا يملك أهل غزّة رفاهية "الرأي الآخر"، لأنهم في قلب الحقيقة. الإيمان بعدالة قضيتهم ليس موقفًا سياسيًا بل يقين وجودي. هم لا يدافعون عن بيوت فقط، بل عن معنى أن يكون الإنسان حرًا، لا ككلمة على لافتة أممية، بل كفعل حيّ في وجه الموت.

الذاكرة الحيّة لا تموت

من النكبة إلى المخيم، ومن المجزرة إلى الحصار، لا تُفصل الأحداث في وعي الغزّي. كل عدوان هو امتداد لذاكرة لم تُمحَ، وكل طفل يولد وفي قلبه حكاية لم تُروَ بعد. التاريخ هنا لا يُدرّس، بل يُعاش، ولهذا فإن كل بيت يُقصف يولد معه بيت من المعنى.

غزّة: خط الدفاع الأخير عن الفكرة

حين سقطت العواصم، وحين رُفعت أعلام الاحتلال في مؤتمرات "السلام"، بقيت غزّة وحدها تقول: لا. هذه "اللا" ليست سياسية، بل وجودية. لأن سقوط غزّة ليس مجرد احتلال لبقعة، بل تصفية للفكرة الأخيرة التي لم تُباع.

حين تُصبح المقاومة طقسًا يوميًا

في غزة، لا تُمارس المقاومة كرد فعل، بل كفعل مستمر. كأن تُعد أم الغداء في بيتها وهي تعلم أن الطائرات فوقها. أن تُعلّم الطفلة دروسها وسط الأنقاض. أن يُصلّي الجدّ في ساحة لم يبقَ من المسجد سوى ترابه. هذه التفاصيل التي قد تبدو عادية، هي أعلى مراتب المقاومة.

مناعة معنوية لا تَفهَمها الجغرافيا

غزّة ليست محصّنة بصواريخ، بل بروح لا تُفككها المعايير الأمنية. حين يُبنى الإنسان على فكرة، يصبح أقوى من الحدود والجيوش. ولهذا فإن ما تفشل الطائرات في تدميره، قد يكون فقط "قناعة" تعيش في صدر طفل يعرف أن والده استُشهد ولم ينكسر.

خيانة العالم كاشفة لا محبطة

لم تعد خيانة العالم صادمة للغزّي. لم يتوقع نصرة من أنظمة تسلّحت ضد شعوبها. لكنه أيضًا لا ينتظر. غزّة لا تُعلّق خلاصها على أحد. ولهذا فهي محرّرة من وهم "الدعم"، وتبني مشروعها الوحيد: أن تصمد، كي لا ينهار كل شيء.

التكافل الروحي قبل الإغاثة المادية

في غزّة، يُقسم الرغيف، لا خوفًا من الجوع، بل وفاءً للكرامة. البيوت تُفتح، ولو لم يبقَ فيها شيء. الأجساد تُنتشل، وتُدفن بالأيدي المجروحة. هذا المجتمع يصنع آلياته البديلة للبقاء، لا لأن الحياة سهلة، بل لأن الذلّ مستحيل.

سقوط المنطق الغربي في اختبار الإنسان

المنظومة الغربية ترى الإنسان ككائن يمكن كسره بالضغط: الحصار، القصف، التجويع. لكنها تواجه في غزة نموذجًا إنسانيًا لا يمكن تصنيفه. لا يفهمون كيف يصرخ طفل فقد أمه وأباه: "لن نركع". لأنهم نسوا أن الإنسان حين يرتبط بالأرض والمقدس، يصبح خارج المعادلة.

غزّة: حيث الكرامة لا تزال حيّة

في عالم اختزل الكرامة في شعارات ومؤتمرات، تقف غزّة كالنصل، كمرآة كاشفة، لا فقط لوجه العدو، بل لوجوه "الأصدقاء". كل بيت يُهدم، يبني فوق أنقاضه معنى. وكل شهيد، يعلّمنا ما لم تقدر الكتب أن تشرحه: أن الكرامة لا تُهزم.

الخاتمة

غزّة ليست بحاجة إلى من يشرح سرّها، بل إلى من يصمت أمام عظمتها. فالعالَم، بكل جبروته، لم يستطع أن يهزم مدينة صغيرة، لأن هذه المدينة تسكنها روح لا مكان لها في المعاجم. غزّة، ببساطة، هي آخر بقعة تقول "لا" في زمن الـ"نَعَم" المهزومة.

أحدث أقدم
🏠