هل الاستعمار انتهى فعلًا؟ عن الاستقلال المزيّف

يُقال إن الاستعمار انتهى، وإن الشعوب قد نالت حريتها، وإن الخرائط الراهنة ترسم دولًا ذات سيادة. لكن خلف هذا السرد الرسمي، يقف سؤال وجودي: هل حقًّا خرج المستعمِر؟ أم أنه غيّر بدلته فقط؟ كثيرٌ من شعوب الجنوب العالمي – من إفريقيا إلى آسيا – تنظر إلى استقلالها السياسي كعلامة تحرر، بينما تظل خيوط القرار السيادي والاقتصاد والثقافة مشدودة في يد الخارج، في ما يمكن تسميته بـ"الاستعمار الجديد" أو "الاستعمار المقنّع".

من المدافع إلى الاتفاقيات: تحوّلات شكلية في أدوات السيطرة

لم تعد السيطرة تُمارَس اليوم عبر البندقية، بل تُمارَس عبر القلم والمصرف والتقنية والمعلومة. الاستعمار الكلاسيكي انتهى في صيغته الصلبة، لكنه استمر في صيغته الناعمة. فبعد أن انسحب المستعمرون من الأرض، زرعوا في بنية الدولة المستقلة نخبًا تدين لهم بالولاء، واقتصادًا تابعًا لأسواقهم، ودساتير تُؤسَّس على مفاهيمهم القانونية والسياسية، ومناهج تعليم تُمجّد ثقافتهم وتُحقّر الهوية الأصلية.

السيادة الممنوحة لا المكتسبة

الاستقلال الذي يُمنَح من قِبل المستعمِر لا يكون استقلالًا حقيقيًا، بل مجرد إذن بالإدارة. فالدول التي حصلت على استقلالها عبر وثائق موقعة مع القوى الاستعمارية لم تُمنح سوى الحق في إدارة الشأن الداخلي تحت سقف مشروط. أما السياسات الخارجية، والموارد الطبيعية، والعلاقات التجارية، فظلّت مرتبطة بمصالح القوى الكبرى. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك، ما يُعرف بـ"الاتفاقيات الدفاعية" أو "اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية" التي تُبقي الجيوش الأجنبية في قواعد داخل الدولة "المستقلة".

العقول التي تُمجّد المستعمر

الاستعمار لا يخرج إلا حين يتأكد أن العقل المُستعمر قد ترسّخ داخل النخب الحاكمة والمثقفة. وهنا يكمن أخطر أشكال السيطرة: الاستعمار العقلي. حين تُصبح اللغة الأجنبية رمزًا للرقي، والتفكير السياسي مجرد إعادة إنتاج لنظريات أوروبية، والنموذج التنموي نسخة كربونية من التجربة الغربية، فإن الاستقلال يصبح زيفًا، والشعوب تُقاد إلى الانبهار بسيدها القديم لا إلى الخروج من سلطته.

الاقتصاد التابع: الاستقلال في ظل السوق الاستعمارية

يُروَّج أن العولمة فتحت الأسواق وألغت الحدود، لكن ما حدث فعليًا هو تكريس التبعية الاقتصادية. فموارد الدول المستقلة تُستنزف عبر شركات متعددة الجنسيات، تُصدِّر المواد الخام بأبخس الأسعار وتُعيد بيع المنتجات المصنّعة بأسعار مضاعفة. والبنك الدولي وصندوق النقد يقدمان "مساعدات" مشروطة بسياسات تُفرّغ الدولة من أدوات سيادتها الاقتصادية، وتحوّلها إلى مستهلك تابع لا منتج مستقل.

بين العلمانية المُستوردة والديمقراطية المفروضة

حتى في بُعدها السياسي والاجتماعي، ظلت "الدولة المستقلة" رهينة لمفاهيم لم تنبع من وجدانها الحضاري. فالعلمانية – مثلًا – لم تُفرض كنتاج لسياق داخلي، بل كجزء من حزمة مفاهيم أُسقطت إسقاطًا لتُصالح النخب مع المستعمِر لا مع شعوبها. والديمقراطية التي تُمارس في كثير من هذه الدول ليست سوى واجهة شكلية تُمنَح لتغطية بنية سلطوية تُديرها نفس القوى التي احتلت الأرض قديمًا، وتحتل القرار اليوم.

الاستقلال الحقيقي يبدأ من الداخل

لا استقلال بلا وعي. والخروج من الاستعمار لا يكون بانسحاب الجيش، بل بإعادة بناء الإنسان الحر. التحرر يبدأ حين تُفكّك أدوات السيطرة الناعمة، حين تُعاد صياغة المناهج، ويُسترد القرار الاقتصادي، وتُسترجَع الهوية الثقافية، ويُعاد التفكير في معنى الدولة والسيادة بعيدًا عن النموذج الذي رسمه المحتل. عندها فقط، يمكن الحديث عن استقلال حقيقي، لا عن استقلال مزيّف تُرفَع فيه الأعلام وتُقيَّد فيه الإرادات.

أحدث أقدم
🏠