كيف نكشف صدقية الخبر؟ من تفكيك الحدث إلى تفكيك الخطاب

في زمن تسونامي المعلومات، لم يعد السؤال الأهم: "ماذا حدث؟"، بل أصبح: "من الذي قال إنه حدث؟ ولماذا قاله بهذه الطريقة؟". فـالخبر في الإعلام لم يعد مجرد نقل لوقائع، بل أداة تُستخدم لإنتاج وعي، وتوجيه شعور، وتحديد موقف. وفي هذا السياق، لا تكفي تقنيات "التحقق من المعلومة"، بل يجب استخدام أدوات أعمق تكشف البنية الخفية للخبر، وتفكك دوافعه، وتقرأ غايته.

أولًا: المصدر ليس بريئًا.. بل هو جزء من الخبر

حين يُقال إن "المصدر موثوق"، يجب أن يُسأل فورًا: موثوق عند من؟ وبناءً على أي تاريخ؟
فأي جهة إعلامية ليست كائنًا محايدًا، بل كيان يحمل مصالح وتوجهات وعلاقات تمويل وتأثير سياسي. لذلك، لا بد من تفكيك هوية الجهة الناشرة، وسياقها، وخطها التحريري، وسوابقها.

الخبر لا يُقرأ بمعزل عن مصدره، لأن المصدر هو من يقرر ماذا يُقال، وماذا يُسكت عنه.

ثانيًا: اللغة ليست أداة نقل، بل أداة توجيه

لغة الخبر الإعلامي ليست وصفية بريئة، بل تُصاغ غالبًا بخطاب مشحون يُخفي وراءه نوايا تأثير.
حين تُستخدم كلمات مثل: "فظيع"، "صاعق"، "إرهابي"، "بطل قومي"، "خائن للشعب"... فإن المتلقي يُساق لتبنّي موقف قبل أن يُدرك ما حدث أصلًا.

  • هل تُستخدم لغة حيادية أم مثقلة بالعاطفة؟
  • هل تُعرض المعلومات أم يُصنّف الأشخاص؟
  • هل الخبر يقدّم وقائع أم يصنع أبطالًا وأعداء؟

الإعلام حين يختار لغته، يختار الجمهور الذي يريد تشكيله.

ثالثًا: قارن دائمًا... لا تكتفِ بمصدر واحد

الخبر لا يكشف صدقيته من داخله، بل من خلال مقارنته بتغطيات متعارضة.
حين تُقارن خبرًا من قناة تتبنّى خطابًا معينًا بخبر من جهة نقيضة لها، تبدأ الفجوات في الظهور، وتنكشف الأجزاء المسكوت عنها.

  • ما الذي تم إبرازه؟ ما الذي تم إسقاطه؟
  • من الطرف الذي لم يُسمع صوته؟
  • كيف تبدو زاوية الكاميرا؟ وما الذي خارج الإطار؟

الحقيقة أحيانًا لا تكمن في "ما قيل"، بل في "ما لم يُقل" إطلاقًا.

رابعًا: كل خبر له سياق.. والجهل بالسياق يساوي الجهل بالخبر

لا يوجد خبر "منفصل عن سياقه". كل معلومة تُقدَّم في لحظة زمنية تخدم غرضًا ما.

  • هل يأتي الخبر قبيل حدث سياسي كبير؟
  • هل هو رد على ضغط دولي؟ أم تمهيد لتحرك ما؟
  • هل يُستخدم كذريعة؟ أم كسلاح معنوي؟

الخبر بلا سياق ليس معلومة، بل خدعة تمثيلية.

خامسًا: متى نُشر الخبر؟ التوقيت ليس صدفة

قد يكون الخبر صحيحًا من حيث الوقائع، لكنه خادع من حيث التوقيت. فاختيار لحظة النشر قد يكون بحد ذاته جزءًا من استراتيجية التأثير النفسي والسياسي.

  • هل أعيد نشر الخبر في وقت توتر أو غضب شعبي؟
  • هل يوظَّف لتعزيز سردية معينة أو لصرف النظر عن أخرى؟

الإعلام لا يختار التوقيت عبثًا.. بل يُتقنه كما يتقن اختيار الكلمات.

سادسًا: من المستفيد؟ السياسة دائمًا خلف الستار

الخبر الذي لا يُفهم ضمن شبكة المصالح والسلطة، يبقى سطحًا بلا عمق.
كل ما يُقال في الإعلام يُقال لغرض، حتى لو بدا "مُجرَّد نقل". اسأل دائمًا:

  • من المستفيد من نشر هذا الخبر؟
  • من الخاسر الأكبر منه؟
  • من يُعاد تلميع صورته؟ ومن يجري شيطنته؟

حين تفهم من يُراد له أن يكسب، ومن يُراد له أن يُدان، تبدأ في كشف نية الخبر.

الخاتمة: لا تصدّق.. ولا تُكذّب.. بل فكّك

في عالم الإعلام الموجَّه، لا قيمة للحياد السلبي. المطلوب ليس أن تصدّق كل ما يُقال، ولا أن تُكذّب كل شيء. بل أن تُدرّب عقلك على أن يكون مخبرًا للخطاب، لا متلقيًا له. أن تحوّل كل خبر إلى مادة للتحليل، لا وسيلة للانفعال.

الخبر ليس حقيقة، بل رواية مُعدّة بعناية. وما لم نفكك بنيتها، ونفهم دوافعها، سنبقى نردّد ما يُراد لنا أن نصدّقه، لا ما نكتشفه بأنفسنا.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.