
فهل التاريخ ملكٌ للسلطة لأنها تكتبه؟ أم ملكٌ للشعوب لأنها تعيشه وتدفع ثمنه؟
السلطة تكتب التاريخ... ولكن
لا خلاف أن السلطة تمتلك أدوات كتابة التاريخ: مؤسسات التعليم، الإعلام، الأرشيف، وحتى الخطاب الديني أحيانًا. ومن خلال هذه الأدوات، تُعيد تشكيل السرديات بما يخدم مشروعها وشرعيتها. السلطان هو من يُصوَّر حاميًا للوطن، والثائر يُوسَم بالخيانة أو الفوضى. يتحول القمع إلى "استقرار"، والاحتلال إلى "تحديث"، والخضوع إلى "حكمة سياسية".
لكن هذا الاحتكار للسرد لا يعني امتلاك الحقيقة، بل امتلاك الميكروفون فقط. فالتاريخ في صيغته الرسمية ليس إلا تأويلاً، وربما تزويرًا، لما جرى فعلاً. السلطة تصوغ الرواية، لكنها لا تستطيع دائمًا طمس الواقع.
الشعوب تصنع الحدث.. وتُقصى من الرواية
الشعوب ليست مجرّد "جمهور" في مسرح السلطة، بل هي الفاعل الخفي الذي يتحرك تحت طبقات الصمت. هي التي تنتفض، تصبر، تزرع، تنهار، تهاجر، وتُقَاوم. هي من يتشكل وعيها رغم التضليل، وتتحمل الكلفة الحقيقية لأي خيار سياسي. ومع ذلك، حين يُدوَّن التاريخ، تُختزل الشعوب في وصفٍ عابر: "اندلعت مظاهرات"، "ثار الناس"، "وقعت اضطرابات".
تُجَرَّد من أسمائها وأحلامها، وتُمسَخ إلى جموع غاضبة أو ساكنة. لكن الحقيقة أن كل حدث مفصلي في التاريخ لم يكن ليوجَد لولا تحركات الناس، ضغوطهم، خوفهم، رفضهم، إيمانهم، خياناتهم، أو آمالهم المكبوتة.
التاريخ الرسمي مقابل الذاكرة الجمعية
التاريخ الذي يُدرَّس ليس دائمًا ما يُروى في البيوت والأسواق والمخيمات. هناك تاريخ رسمي وتاريخ حيّ، يُنقل شفهيًا، أو يُحفر في الذاكرة الجمعية، في الأغاني، الأمثال، الرسوم، والندوب التي لا تندمل. والسلطة، رغم سيطرتها على السرد الرسمي، لا تملك هذا الرافد الشعبي الذي يعيد رواية الحدث بشكل مضاد، وربما أكثر صدقًا.
حين يُكتب عن النكبات والمجازر والانقلابات، لا تسكن الوقائع في الكتب، بل في العيون التي شهدت، والصور التي هُرِّبت، والأصوات التي تم تجاهلها عمدًا.
هل يمكن تحرير التاريخ من السلطة؟
نعم، ولكن بشروط. أولها تفكيك العلاقة الوثيقة بين التاريخ والهيمنة: متى كُتِب الحدث؟ ومن كتبه؟ ولماذا؟ وثانيها إعادة الاعتبار للمهمَّشين، كأصحاب القصة الأصلية. وثالثها الاعتراف بأن الحقيقة التاريخية ليست دائمًا واحدة، بل متعددة بتعدد الزوايا.
مهمة المؤرخ المستقل، والمثقف الحقيقي، ليست تأريخ الماضي كما أرادته السلطة، بل مساءلته كما عاشه الناس.
خلاصة
السلطة تُدوِّن التاريخ لتبرير وجودها، والشعوب تصنعه دون أن تُمنح شرف نسبه. وبين الاثنين، تتشكل روايات متضاربة، أحدها صاخب ومطبوع، والآخر هامس لكنه حيّ. من يبني التاريخ إذًا؟ من يكتبه؟ أم من ينزف لأجل حدوثه؟
إنه سؤال يجب ألا يُجاب عليه بسرعة، بل يُقلَب على وجوهه، حتى نكتشف: أن أخطر ما قد تفعله السلطة بالتاريخ، ليس تزوير وقائعه، بل إقناعنا أننا لم نكن موجودين أصلًا.