
لكن حين نُخضع هذه الرواية للقراءة النقدية، فإننا نكتشف أنها ليست مجرد سرد لحدث تاريخي، بل بناء رمزي مقصود يخدم أهدافًا تتجاوز التوثيق.
أسطرة البطولة مقابل تعقيد الواقع
رواية دخول أربعين رجلًا فقط لمدينة مأهولة تخضع لسيطرة خصم مدعوم عثمانيًا، والنجاح في إسقاطها في ساعات قليلة، تُحاكي في بنيتها القصص البطولية أكثر من كونها عملية سياسية عسكرية.
فالفعل المؤسس هنا لا يُروى كنتاج موازين قوى أو حراك شعبي أو توافق قبلي، بل يُقدَّم كملحمة خارقة لعزيمة رجل ومجموعة قليلة معه، مما يضفي على المشروع السياسي هالة قدسية لا تُجادل.
تغييب السياق: أين كانت المدينة من كل هذا؟
هل كانت الرياض قابلة للاختراق فعلًا؟ هل كان أهلها داعمين؟ هل انهارت سلطة آل رشيد من الداخل قبل هذا الحدث؟ كل هذه الأسئلة تغيب من الرواية، لأنها تشتت التركيز عن "البطل الفرد" وتحوّل الفضل إلى عوامل خارجة عن "الشرعية البطولية".
والحال أن أي مدينة محصّنة لا تُؤخذ إلا بواحد من ثلاثة: تواطؤ داخلي، انكشاف استخباراتي، أو حاضنة شعبية ترفض الحاكم القائم. أي من هذه العوامل غائب تمامًا في الرواية الرسمية.
دخول فرادى: مسرحية رمزية
تفصيل دخول المقاتلين “فرادى” يعزز عنصري المفاجأة والسرية، لكنه أيضًا يُشبه البناء المسرحي الرمزي أكثر من كونه إجراءً عسكريًا واقعيًا.
هل كان ممكنًا فعلًا أن يتسلل أربعون رجلًا إلى مدينة من دون أن يُكتشفوا؟ أم أن هناك جهات داخلية سهّلت الطريق؟ أم أن الحامية كانت ضعيفة ومعزولة لدرجة لم تكن تملك القدرة على المقاومة؟ كلها تساؤلات تُقصى عمدًا لصالح مشهد درامي واضح البنية.
مقتل الحاكم = سقوط المدينة؟
تُقدَّم لحظة قتل عجلان وكأنها الحد الفاصل بين زمنين، وكأن السلطة تُختزل في جسد رجل. هذا الطرح يُعبر عن رؤية مشيخية للسلطة: الحاكم هو كل شيء، فإن سقط سقط كل شيء. وهو ما يتماشى مع العقل السياسي التقليدي لا مع القراءة الواقعية لهيكل الحكم.
لماذا هذا النوع من السرديات؟
لأنها تخلق شرعية رمزية عليا تقوم على:
- الانتصار بالإرادة لا بالكثرة.
- النصر بالمبادرة لا بالتحالفات.
- تأسيس الحكم بيد قائد ملهم لا بثورة شعبية.
وبالتالي، يُعاد تعريف "الشعب" في الرواية كمجرد جمهور متلقٍّ، لا كفاعل تاريخي، مما يُمهد لترسيخ شكل هرمي للسلطة، يبدأ من الأعلى نزولًا، لا العكس.
خلاصة: حين تُكتب البطولة على مقاس السلطة
إن سردية "فتح الرياض" ليست مجرد قصة نجاح فردي، بل بناء متعمد لشرعية حكم، تُقصي العوامل الموضوعية لتُضفي على الحُكم صفات الضرورة والمصير والبطولة.
ومثلها مثل كثير من الروايات التأسيسية في العالم العربي، تُقدَّم الحدث المؤسس كفعل إنقاذي خارق، لا كنتيجة لصراعات سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة.
السؤال الذي يجب أن يُطرح دائمًا: هل نصدق الرواية لأنها حدثت؟ أم حدثت لأنها كُتبت بهذه الطريقة؟ في عمق هذا السؤال يتجلّى الفرق.