فرنسا: حارسة حقوق الإنسان أم مهندسة الاستعمار الناعم؟

لطالما احتلت فرنسا موقعًا رمزيًا في الذاكرة العالمية بوصفها مهد الثورة والحرية والمساواة، وراعية للفكر التنويري وقيم الديمقراطية. لكن خلف هذه الصورة الوردية، تقبع دولة استعمارية قديمة ما تزال تلعب أدوارًا خفية في إدارة الفوضى، والتدخل في شؤون الدول، وفرض الهيمنة بطرق ناعمة، لا تقل خبثًا عن الاستعمار الكلاسيكي.

الخطاب المعلن

تتبنّى فرنسا خطابًا يقوم على "القيم الجمهورية"، والترويج لحقوق الإنسان، وفصل الدين عن الدولة، ونشر الثقافة الفرنسية بصفتها ركيزة لتحرير العقل البشري.
وتحرص على الظهور كقوة مستقلة عن الولايات المتحدة، ذات موقف خاص في السياسة الدولية، خصوصًا في إفريقيا والشرق الأوسط.

الجانب المظلم

غير أن دور فرنسا الحقيقي يتجاوز هذا التقديم الأخلاقي، ويكشف عن ممارسات استعمارية جديدة تمارس النفوذ لا عبر الاحتلال العسكري فحسب، بل من خلال الاقتصاد، اللغة، النخب السياسية، وحتى الدساتير التي تُفصَّل وفق مقاس المصالح الفرنسية.

  • الاستعمار الجديد في إفريقيا (Françafrique):
    ما تزال فرنسا تمارس نفوذًا مباشرًا أو غير مباشر على مستعمراتها السابقة في إفريقيا، من خلال عملات مربوطة بالخزانة الفرنسية (الفرنك الإفريقي)، وقواعد عسكرية، واتفاقيات دفاع، وتدخلات انتخابية.
    رؤساء أفارقة عديدون هم إما صناعة فرنسية مباشرة، أو مشروطون بالبقاء على ولاء تام للمصالح الفرنسية مقابل دعم سياسي وعسكري.
    وكلما حاولت دولة الانفكاك من هذه التبعية، كما حدث في مالي وبوركينا فاسو، واجهت اضطرابات وانقلابات وتحريضات إعلامية.

  • التدخل الثقافي والسيطرة الرمزية:
    تُروِّج فرنسا للفرنكوفونية كمجرد مشروع ثقافي، لكنه في الواقع وسيلة لاستدامة الهيمنة الثقافية على شعوب عديدة، وفرض اللغة الفرنسية كوسيط للشرعية الأكاديمية والسياسية.
    الجامعات والمدارس والمنح والمؤسسات الثقافية تُستخدم لتطويع النخب وتوجيه الخطاب السياسي العام نحو الولاء لباريس، عبر بوابة "الحداثة".

  • النفاق السياسي في قضايا العالم الإسلامي:
    فرنسا تُقدّم نفسها كمدافع عن حرية التعبير، لكنها في الداخل تمارس تضييقًا متزايدًا على المسلمين، وتُنتج قوانين باسم "العلمنة" تؤسس للتمييز الممنهج ضد كل من لا يتماهى مع النموذج الثقافي الفرنسي.
    كما أنها تُزايد على قضايا الإرهاب لتبرير تدخلها العسكري في إفريقيا، بينما تغض الطرف عن جرائم أنظمة حليفة تنتهك حقوق الإنسان بوقاحة.

  • الاستقلال الزائف عن أمريكا:
    رغم محاولات فرنسا لتقديم نفسها كصوت مستقل في السياسة الدولية، إلا أن تحالفاتها العسكرية (خاصة في الناتو)، وتماهيها في قضايا كالعقوبات الدولية والتدخلات في الشرق الأوسط، تُظهر أنها ليست فاعلًا حرًّا كما تدّعي.
    استقلالها "النقدي" تجاه أمريكا لا يتعدى حدود اللهجة، بينما تظل السياسات الجوهرية منسجمة مع استراتيجية الغرب الكبرى.

تطوير وعي نقدي: الحرية المزعومة كغطاء للتدخل

ينبغي تجاوز الإعجاب السطحي بفرنسا كبلد ثورات وأدب وفكر، والنظر إليها كقوة استعمارية تعيد إنتاج سيطرتها بأدوات حديثة.
المثقف الحر ليس منبهراً بالشعارات، بل واعٍ بكيفية استخدامها لتغطية التواطؤ والاستغلال.
إن كشف وجه فرنسا الحقيقي يعني إعادة فهم الخطاب "التنويري" نفسه، وتفكيك آلياته الناعمة في إنتاج الطاعة والتبعية باسم التحرر.

خاتمة تحليلية

فرنسا ليست فقط بلد الموناليزا وبرج إيفل، بل هي قوة هيمنة صامتة، ترتدي قناع الثقافة لتُخفي شهوة السيطرة.
من استعمار مباشر إلى استعمار رمزي، ومن احتلال عسكري إلى سيطرة على البنوك والعقول، تستمر فرنسا في لعب دور مركزي في تثبيت النظام الدولي الذي يُبقي الشعوب في حالة تبعية مغلّفة بديباجات ناعمة.
وفهم هذا الدور هو أول طريق التحرر من الخضوع المغلّف بالتنوير.

أحدث أقدم
🏠