فروق: فشل الانقلاب في تركيا: التحولات السياسية والعسكرية في المنطقة

Friday, May 9, 2025

فشل الانقلاب في تركيا: التحولات السياسية والعسكرية في المنطقة

في ليلة الخامس عشر من يوليو عام 2016، اهتزت الجمهورية التركية على وقع محاولة انقلاب عسكري فاشلة كادت أن تُدخل البلاد في نفق مظلم. لكن ما حدث لم يكن مجرد إخفاق تقني لمخطط عسكري، بل لحظة محورية أعادت تشكيل الدولة التركية من الداخل، وأعادت رسم خارطة النفوذ السياسي والعسكري فيها. لم يقتصر أثر هذا الحدث على الداخل التركي، بل تجاوزه ليترك بصمة عميقة على المنطقة كلها، حيث برزت تركيا بعده كلاعب إقليمي وازن، مستندة إلى شرعية جماهيرية متجددة ونظام سياسي معاد تشكيله.


فشل الانقلاب العسكري في تركيا: التحولات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط

في 15 يوليو 2016، شهدت تركيا حدثًا سياسيًا وعسكريًا غير مسبوق عندما حاولت مجموعة من الضباط العسكريين الإطاحة بالحكومة المنتخبة بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، في محاولة انقلاب عسكري فشلت في النهاية. كانت تلك اللحظة نقطة تحول بارزة في تاريخ تركيا السياسي والعسكري، وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط ككل. فشل هذا الانقلاب أحدث تغييرات عميقة على المستوى الداخلي التركي، كما ترك آثارًا بعيدة المدى على التوازنات الإقليمية والعلاقات الدولية.


الانقلاب العسكري: محاولة لإعادة التوازن

تعود جذور الانقلاب إلى الصراع المستمر بين الجيش والحكومة المدنية في تركيا. في العقود التي سبقت الانقلاب، كان الجيش التركي يُعتبر حامي العلمانية والدستور الجمهوري في البلاد، وسبق له أن تدخل في السياسة عدة مرات عبر انقلابات عسكرية في أعوام 1960 و1971 و1980. ولكن منذ وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان إلى السلطة عام 2002، بدأ الجيش يشهد تراجعًا كبيرًا في نفوذه السياسي.

على الرغم من أن أردوغان قام بإصلاحات ديمقراطية وقلّص سلطة الجيش، فإن بعض الدوائر العسكرية كانت لا تزال تشعر بأن النظام قد انحرف عن المسار العلماني التقليدي. يعتقد بعض المحللين أن الانقلاب كان نتيجة مزيج من التوترات السياسية داخل المؤسسة العسكرية والقلق من تصاعد تأثير حزب العدالة والتنمية.

تفاصيل فشل الانقلاب

في مساء 15 يوليو 2016، بدأت مجموعة من الضباط في الجيش التركي بتنفيذ الانقلاب. أغلقت بعض الجسور في إسطنبول، وتم نشر الدبابات في الشوارع، بينما سُمع دوي إطلاق النار في أنحاء مختلفة من العاصمة أنقرة. إلا أن أردوغان الذي كان في عطلة في مرمريس استغل التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي ليتواصل مع الشعب عبر فيديو مباشر، داعيًا الأتراك للنزول إلى الشوارع لمقاومة الانقلاب.

كانت الاستجابة الشعبية غير مسبوقة، حيث احتشد الملايين في المدن الكبرى في تركيا مؤيدين للشرعية الدستورية ومناهضين للانقلاب. هذا الدعم الشعبي الكبير ساهم بشكل أساسي في فشل الانقلاب. كما أن الوحدة داخل المؤسسة العسكرية كانت مشوشة، حيث انقلبت بعض الوحدات العسكرية على الانقلابيين، مما أسهم في تعطيل خططهم.

التأثيرات السياسية الداخلية لنجاح أردوغان في إفشال الانقلاب

بعد فشل الانقلاب، بدأ أردوغان حملة واسعة للتطهير داخل الجيش، الشرطة، والقضاء، وهي الحملة التي شملت اعتقال آلاف الضباط والجنود، بالإضافة إلى الإطاحة بعشرات الآلاف من الموظفين المدنيين. استخدم أردوغان فشل الانقلاب لتكريس سلطته أكثر من خلال تغيير القوانين وتوسيع صلاحياته التنفيذية.

وفي 2017، تم تعديل الدستور التركي بشكل جذري عبر استفتاء شعبي، ما أدى إلى تحويل النظام من برلماني إلى نظام رئاسي، مما منح أردوغان صلاحيات أكبر وأكثر تحكمًا في إدارة شؤون الدولة. كما تم تعزيز الهيمنة السياسية لحزب العدالة والتنمية على مفاصل الدولة المختلفة، مما وضع السلطة في يد أردوغان بشكل مطلق.

التداعيات الإقليمية والدولية لفشل الانقلاب

  1. فشل الانقلاب وزيادة عزلة تركيا من الغرب:
    بعد الانقلاب، تزايد توتر العلاقات التركية مع الغرب، حيث انتقدت بعض الدول الغربية الحملة الكبيرة التي شنتها الحكومة التركية ضد المعارضة، وتعرضت إلى اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان والحرية الإعلامية. كما انسحب العديد من الدول من مشاريع التعاون العسكري مع تركيا.

    على الرغم من هذه التوترات، سعت تركيا إلى تعزيز علاقاتها مع قوى أخرى مثل روسيا والصين، حيث كانت تستفيد من الدعم الروسي في مجالات مثل الدفاع الجوي عبر صفقة S-400.

  2. تقوية التعاون التركي الروسي:
    لعبت روسيا دورًا محوريًا في تعزيز موقف تركيا الإقليمي بعد فشل الانقلاب. الترابط بين تركيا وروسيا ازداد بشكل لافت في أعقاب الانقلاب، خاصة في ظل التوترات مع حلفاء تركيا التقليديين في الناتو. تركيا لم تقتصر على علاقات اقتصادية مع روسيا فحسب، بل شهدت أيضا تنسيقًا عسكريًا في سوريا حيث سمحت روسيا لتركيا بتنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية ضد الجماعات الكردية والميليشيات المدعومة من الولايات المتحدة.

  3. الانعكاسات على النزاعات الإقليمية:
    فشل الانقلاب قد ساهم في تعزيز قدرة تركيا على المناورة السياسية في ملفات سوريا وليبيا والقوقاز. إذ أصبح لتركيا دور أكبر في التحركات العسكرية والسياسية، حيث استعادت تركيا قوة إقليمية قادرة على التأثير في مجريات الأحداث في مناطق النزاع.

دور القوى العالمية في إفشال الانقلاب

عند الحديث عن دعم القوى العالمية لتركيا في إفشال الانقلاب، نرى أن الدور الروسي كان غير مباشر، ولكنه كان مؤثرًا عبر تعزيز التعاون العسكري والسياسي في السنوات التالية. أما الولايات المتحدة الأميركية، فقد أظهرت موقفًا حذرًا في البداية، ورفضت دعم الانقلابيين أو تقديم مساعدات علنية لتركيا، بل كان موقفها محصورًا في دعم الحكومة التركية بعد فشل الانقلاب، على الرغم من التوترات المتعلقة بتورط فتح الله غولن في المحاولة.

الخاتمة

فشل الانقلاب العسكري في تركيا كان نقطة فاصلة في تاريخ البلاد. لم يكن فشل الانقلاب مجرد حدث عسكري عابر، بل أدى إلى تحولات استراتيجية في السياسة الداخلية والخارجية لتركيا. تعزيز سلطات أردوغان وتقوية العلاقات مع روسيا، على حساب التوترات مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، أتاح لتركيا مساحة أكبر للهيمنة الإقليمية في الشرق الأوسط. كانت هذه التحولات ليست فقط في إطار الاستقلال السياسي والعسكري، بل أيضًا في موقع تركيا الاستراتيجي كقوة إقليمية مؤثرة في نزاعات المنطقة.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .