فروق: محاضير محمد: زعيم المرحلة... أم مؤسس الأمة

Friday, May 9, 2025

محاضير محمد: زعيم المرحلة... أم مؤسس الأمة

ذلك الرجل الذي قاد ماليزيا عبر محطات مفصلية في تاريخها الحديث، لا يزال يُنظر إليه كرمز من رموز النجاح والتقدم في جنوب شرق آسيا. بفضل سياساته الاقتصادية التي حولت البلاد من مجتمع زراعي إلى قوة صناعية، أصبح قائدًا يُحتذى به في العديد من أرجاء العالم. لكن وراء هذه الصورة اللامعة، تتكشف جوانب أخرى، حيث يطرح تساؤل كبير: هل كان رجل دولة حقيقي، أم مجرد زعيم لحظة تاريخية؟ بين نجاحاته الاقتصادية، وفشله في بناء مؤسسات قادرة على الصمود بعده، يبرز كشخصية معقدة؛ فقد حمل معه مشروعًا تحديثيًا، ولكنه أغفل الأسس التي تجعل هذا التحديث مستدامًا..  

نستعرض مختلف أبعاد إرثه السياسي والاجتماعي، مع تسليط الضوء على الانتقادات التي وُجهت إليه من مختلف الأطياف السياسية والدينية، لإلقاء الضوء على حقيقة ما تحقق في حكمه، وما فشل في تحقيقه.

من الصعب تجاوز محاضير محمد حين يُكتب تاريخ ماليزيا الحديثة. فهو الرجل الذي أخرج البلاد من هامش الاقتصاد الآسيوي إلى

 واجهة التقدم الصناعي، واحتُفي به كمهندس "المعجزة الماليزية". لكنه في المقابل لم يكن صانع دولة متماسكة، ولا مؤسس أمة قادرة على الاستمرار من بعده.

فبين نجاحٍ في الإدارة، وفشلٍ في البناء المؤسسي، وبين خطاب سياسي متماسك ورؤية دينية باهتة، يظهر محاضير كشخصية رمزية حملت البلاد إلى الأمام، ثم تركتها معلّقة في فراغ ما بعد الزعيم.

حكم طويل... بلا أساس مستقر

امتد حكمه من 1981 حتى 2003، وهي مدة طويلة مكّنته من تنفيذ تحوّلات اقتصادية وهيكلية عميقة. لكن ذلك لم يُفضِ إلى تأسيس دولة مؤسسية صلبة، بل إلى منظومة شديدة الارتباط بشخصه. لم تكن هناك آليات قادرة على إدارة الدولة بغيابه، بل شبكة ولاءات وقرارات مركزية تُدار من الأعلى.
ما إن استقال حتى بدا النظام في حالة ارتباك، وكأن ماليزيا لا تستطيع أن تتخيّل مستقبلًا بلا "محاضير".

استقالة محسوبة... لا انتقال هادئ

استقالته الأولى لم تكن نهاية طبيعية لمسيرة زعيم، بل جاءت في سياق سياسي مضطرب. كانت البلاد تشهد احتجاجات مستمرة، وأزمات داخلية متصاعدة، في ظل انقسام حزبي حاد.
نظيره الأقوى في الجوار، سوهارتو، سقط قبل أعوام قليلة إثر ثورة شعبية في إندونيسيا، ومحاضير اختار الخروج بهدوء قبل أن تفرض الشوارع كلمتها.
كانت استقالة ذكية، لا ندمًا ولا تصوفًا سياسيًا، بل خطوة لحماية صورته التاريخية.

عودة اضطرارية... لا بعث سياسي

في عام 2018، عاد محاضير إلى الحكم، لكن لا باعتباره زعيمًا ملهمًا أو صاحب طموح متجدد، بل كرمز مؤقت اتفقت عليه القوى السياسية لإسقاط نجيب رزاق، رئيس الوزراء الغارق في الفساد والمتشبث بالسلطة.
محاضير لم يحمل معه مشروعًا جديدًا، بل جسّد حالة من "العودة الضرورية" لاستعادة التوازن. وسرعان ما تهاوى التحالف بعد عودته، وسقطت حكومته، وارتبكت البلاد سياسيًا، ما أثبت أن الرجل لم يعد حامل رؤية، بل أداة لحظة.

الفساد... ليس غائبًا بل مُدارًا

رغم ما يُروَّج عن نزاهته، لم تكن حقبته خالية من الفساد، بل شهدت نظامًا يقوم على توزيع النفوذ والمنافع لضمان الولاء.
العلاقات الشخصية والمصالح التجارية تقاطعت مع القرار السياسي، وبرزت خلال حكمه شبكات محسوبية متينة.
لم يكن هدفه اجتثاث الفساد، بل ضبطه وتوجيهه ضمن معادلة السلطة. والمفارقة أن نجيب رزاق، الذي أسقطه لاحقًا، لم يخرج من خارج نسقه، بل نشأ في قلبه السياسي.

خطاب خارجي متقدم... وتناقض داخلي

في المحافل الدولية، رفع محاضير صوت الجنوب العالمي، وهاجم الهيمنة الغربية، ودافع عن قضايا المسلمين، ما أكسبه احترامًا واسعًا.
لكن في الداخل، تبنّى نموذجًا اقتصاديًا رأسماليًا منفتحًا على الغرب، وتحالف مع كبرى الشركات الأجنبية، ومارس سياسات ليبرالية تحت قشرة قومية.
هذا الخطاب المزدوج عزّز صورته الخارجية، لكنه كشف هشاشة الرؤية الموحدة في الداخل.

مشروع الأمة: هوية سطحية لا اندماج حقيقي

رغم تبنّيه خطاب "الهوية الماليزية"، ظل الانقسام العرقي قائمًا بحدة: الملايو في موقع الأفضلية السياسية، والصينيون في موقع القوة الاقتصادية، والهنود على الهامش.
محاضير لم يصهر المكوّنات في مشروع أمة، بل رسّخ التوازن القلق بينها، وسوّى الخلافات على طريقة الإداري لا الباني الحضاري.

مركزية الزعيم... وتآكل الدولة

تضخّمت شخصيته لدرجة اختزلت الدولة فيه، فتهمّشت المؤسسات، وذابت استقلالية القضاء، وضعف البرلمان، وتحول الإعلام إلى أداة توجيه.
محاضير حكم بعقل إداري استبدادي، لا بعقلية القائد المؤسِّس.
وحين غاب، ورثت ماليزيا نظامًا هشًا لا يستطيع العيش بلا مركز ثقل.

الدين في حضرة السياسة: موقف المتفرج

ورغم أنه مسلم، إلا أن محاضير لم يُقدّم نفسه قط كقائد إسلامي أو حامل لمشروع ديني.
على العكس، انتقد أحكامًا شرعية صريحة، وسخر من بعض الحدود الإسلامية، واعتبرها غير ملائمة للعصر.
رفض المشروع الإسلامي لحزب PAS، وحاول مواجهته بخطاب "إسلام معتدل عصري"، لكن من دون أن يضع الدين في قلب السياسات العامة.
عند كثير من الماليزيين، بدا كزعيم علماني لا يعبأ بتعزيز الهوية الإسلامية في الدولة، مكتفيًا بتوظيفها كلما لزم الأمر لتسويق نفسه أو كسب فئة معينة.


خاتمة: زعيم اللحظة أم رجل الأمة؟

محاضير محمد لم يكن طاغية، لكنه لم يكن مؤسّسًا أيضًا. قاد البلاد بكفاءة في لحظة تاريخية، لكنه لم يزرع مؤسسات تصون ما أنجزه.
أنقذ ماليزيا من التخلف، لكنه لم يُحصّنها من التفتت.
قاوم الهيمنة الخارجية، لكنه حافظ على منطق التبعية الاقتصادية.
رفض المشروع الإسلامي، دون أن يُقدّم بديلاً روحيًا أو ثقافيًا ذا قيمة.
حكم طويلًا، لكنه رحل مرّتين، وفي كل مرة تهاوى كل شيء من بعده.

نجح في إدارتها، لكنه لم يجعلها أمة قائمة بذاتها.
وتلك مأساة الزعيم الذي ظنّ أن بناء الدولة يبدأ وينتهي عند شخصه.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .