
الصين وتايوان: صراع السيادة وحرب الاستنزاف المؤجلة
الخلفية التاريخية: من وحدة الإمبراطورية إلى انقسام الجغرافيا
بدأت العلاقة بين الصين وتايوان في ظل وحدة تاريخية طويلة، حيث كانت تايوان جزءًا من الإمبراطورية الصينية قبل أن تحتلها اليابان عام 1895. وعادت الجزيرة إلى الصين بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الحرب الأهلية الصينية التي انتهت بانتصار الشيوعيين عام 1949 دفعت القوميين إلى الفرار نحو تايوان وتأسيس جمهورية الصين هناك.
منذ ذلك التاريخ، نشأت دولتان كلٌ منهما تدّعي تمثيل "الصين الواحدة"، لكن الزمن غيّر الواقع، وانفصلت تايوان فعليًا بسيادتها ونظامها الديمقراطي، بينما بقيت الصين الشيوعية متمسكة بمبدأ "الصين الواحدة" ومعتبرة تايوان إقليمًا متمرّدًا لا بد أن يعود للوطن الأم.
الهوية التايوانية: بين الثقافة الصينية والاستقلال السياسي
رغم أن سكان تايوان ينحدرون من أصول صينية ويتحدثون لغتها ويتشاركون الثقافة، إلا أن عقود الانفصال خلقت هوية تايوانية مميزة. الأجيال الشابة بشكل خاص ترى نفسها "تايوانية أولًا"، وتعتبر الديمقراطية، وحرية التعبير، والانفتاح، مقومات لا يمكن التضحية بها في سبيل العودة إلى سلطة الحزب الشيوعي الصيني.
وهنا تنشأ المفارقة الأخلاقية: كيف لشعب يشترك في الجذور الثقافية مع الصين أن يقف مستعدًا لمواجهة عسكرية ضدها؟ الجواب يكمن في أن الهوية لم تعد تُبنى فقط على الدم أو اللغة، بل على منظومة القيم ونمط الحياة.
الصين: لا تريد الحرب، بل تنتظر الوحدة الطوعية
رغم خطابها المتشدد، فإن الصين لا تسعى لحرب مع تايوان في المدى القريب. فهي تدرك أن:
- غزو الجزيرة عسكريًا سيكون مكلفًا ومدمرًا.
- الدخول في حرب سيمنح الولايات المتحدة فرصة لاستنزافها كما حصل مع روسيا في أوكرانيا.
- السيطرة على تايوان سليمة أفضل من السيطرة على أنقاضها.
من هنا، تستثمر بكين في الضغوط الاقتصادية، الحصار الرمزي، المناورات العسكرية، والدعاية الإعلامية، لبثّ القلق داخل تايوان، والتشكيك في جدوى الاعتماد على أميركا.
أميركا وتايوان: دعم غير بريء واستراتيجية تمركز
الولايات المتحدة لا تدعم تايوان دفاعًا عن حقوق الشعوب فقط، بل لأسباب استراتيجية عسكرية واقتصادية:
1. تايوان قاعدة متقدمة ضد الصين
- موقعها الجغرافي يجعلها حاجزًا طبيعيًا ضد تمدد الصين نحو عمق المحيط الهادئ.
- من خلالها يمكن لأميركا مراقبة وتقييد الأسطول الصيني وتحركاته.
2. درع تقني عالمي
- تايوان تنتج ما يقارب 60٪ من أشباه الموصلات المتقدمة عالميًا.
- السيطرة على هذه الصناعة تمنح واشنطن تفوقًا صناعيًا وتكنولوجيًا ضد الصين.
3. التوازن الإقليمي
-
فقدان تايوان يعني انهيار الثقة الإقليمية بالحماية الأميركية.
-
حلفاء كاليابان وكوريا الجنوبية سيشكّون في التزامات واشنطن، وهو ما قد يؤدي لتوسع نفوذ بكين بلا مقاومة.
لذلك، من غير الواقعي تصور أن أميركا ستتخلى بسهولة عن تايوان، فهي تمثّل أكثر من مجرد جزيرة: إنها خط الدفاع الأول عن الهيمنة الأميركية في آسيا.
الصين والاستنزاف الأميركي: تجنُّب الفخ
ترى الصين أن المواجهة المباشرة تخدم الأجندة الأميركية، إذ تمنح واشنطن:
- ذريعة لإعادة تمركزها العسكري في المحيط الهادئ.
- فرصة لخلق تحالف إقليمي مضاد للصين.
- أدوات لتقويض سلاسل الإمداد الصينية وعزلها اقتصاديًا.
لذا، فإن بكين تفضّل خيار "الانتظار الاستراتيجي"، حتى تتغيّر التوازنات الدولية، أو تنهك تايوان من الداخل، أو تخسر ثقة الغرب في قدرتهم على حمايتها.
الخاتمة: صراع بين الحتمية السياسية والتكلفة الإنسانية
الصين تعتبر استعادة تايوان مسألة وقت، وتاريخ، وكرامة وطنية. أما تايوان، فترى في استقلالها العملي حصنًا لقيمها وحقوق شعبها. وفي المنتصف، تقف الولايات المتحدة، حريصة على منع صعود الصين دون أن تدفع الثمن مباشرة.
لكن الحقيقة أن تايوان ليست فقط مسألة كرامة للصين، بل هي أيضًا خط أحمر جيوسياسي لأميركا، ومن هنا تأتي خطورة المشهد: كل طرف يرى أن التراجع في هذه المعركة يعني نهاية مشروعه الكبير، إما صعودًا أو احتفاظًا بالهيمنة.
وإذا اندلعت الحرب، فلن تكون مجرد صراع حدود، بل زلزالًا استراتيجيًا يهز النظام العالمي. والسؤال الحقيقي يظل قائمًا:
من سيكون مستعدًا لدفع ثمن النهاية أولًا؟
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
